دروس التاريخ و الثورات العربية .. ماذا تحقق؟ / محمود الزعبي

دروس التاريخ و الثورات العربية .. ماذا تحقق؟

” الثورة هي انتفاض طبقة لا تطيق القيود المفروضة عليها ، و هي تستعين بالشعب بعد أن تبسط له قضيتها العادلة ، و هو ينضم إليها فتكون ثورة شعبية “.

وفقاً لهذا التعريف الموضوعي المحدد للثورة ، و الذي كتبه الفكر المصري سلامة موسى في بدايات القرن العشرين ، يمكن لنا أن نبدأ مقارنة بين الثورات العرببة التي بدأت في العام ٢٠١١م بإسم ” الربيع العربي ” و بين الثورات المحورية في التاريخ الإنساني : الثورة الإنجليزية ١٦٤٠-١٦٨٩ ، و الثورة الفرنسية ١٧٨٩-١٨١٥ . و اللتان تمثلان نموذجاً جوهرياً للسياق التاريخي لثورات العالم الحديث الذي تحولت بُناه من قرى متفرقة إلى مدن واسعة منظمة منذ القرن السابع عشر .

لقد نشبت الثورة الإنجليزية بدءً بالعام ١٦٤٠م حينما بدأ الملك الطاغية ” تشارلز ” بمحاولاته للتخلص من البرلمان و فرض الضرائب على الشعب دون رقابة البرلمان ، و خصوصاً على تلك الطبقة الصناعية الجديدة بشقيها ( المُلاك و العمال ) ، و التي بدأت تنشأ في انجلترا بعد بدء نمط انتاجها بالتحول نحو الصناعة شيئاً فشيئاً . و حين جابه البرلمان ذلك الطغيان ، دخل الملك تشارلز إلى البرلمان و قال ” تذكروا أن البرلمانات في يدي أدعوها و أعقدها و أحلها .. و لا تعدوا هذا تهديداً لأنني أربأُ بنفسي أن أهدد أحداً ما لم يكن مساوياً لي “!
ثم أكمل طغيانه بحل البرلمان مدة ١١ سنة ، و أقفل مبنى البرلمان و علق على بابه لوحة مكتوب عليها ” منزل للإيجار ” . حتى اصطدم الشعب الإنجليزي بقيادة ذلك الثائر الفلاح ” كرومويل ” و جيش الفلاحين غير المدربين بالملك تشارلز و جيشه المنظم ، و لكن لم يفلح بطش الطغيان في الإنتصار على قوة الشعب ، فتمكن الشعب من إلقاء القبض عليه و إعدامه . ثم ما لبثت الثورة أن بدأت تشرع في تحقيقها أهدافها حتى تم تنصيب ” تشارلز الثاني ” ابن الملك المُعدم ، و الذي تعهد علناً بأن لا يكرر ما ارتكب أبوه .. و لكنه رغم ذاك و رغم وجود البرلمان ، قام بتشويه الثورة في أوروبا بمساندة النبلاء و القسيسين و الكتاب المرتزقة الذين استأجرهم للدفاع عنه . و وصل به الأمر إلى أن أخرج جثة كرومويل و شنقها ، ثم فصل الرأس عن الجثة و علقه على سارية ليكون عبرة للثوار . ثم خلفه بعد وفاته أخيه ” جيمس ” الذي حاول الطغيان فعزله الشعب ، و انتهت حقبة ( طغيان ما بعد الثورة على الطغيان ) بشروق شمس تلك الثورة عبر وثيقة الحقوق التي تعد قاعدة هرم الديموقراطية الإنجليزية العريقة .

مقالات ذات صلة

كما أن النموذج الفرنسي قد بدأ بفساد الملك ” لويس السادس عشر ” و نبلائه إلى حد امتلكوا به حياة الناس ، في الحين الذي بدأ به بزوغ تلك الطبقة الصناعية الجديدة بشقيها ، و التي وقع على عاتقها حمل ضرائب الملك .. فساءت الأحوال في فرنسا ، فقام الملك بدعوة وزير خبير بهذه الشؤون ، و حين عرض الوزير على الملك الإصلاحات التي اقترحها رفض الملك ، فكان ذلك الرفض هو عود الثقاب الذي أشعل الثورة التي انتهى شوطها الأول بإعدام الملك و زوجته . ثم ما لبثت الثورة الفرنسية أن تنفست قليلاً حتى أنجبت الطاغية نابليون الذي أحكم قبضته على السلطة عام ١٧٩٩م ، و قلَّد نفسه إمبراطوراً على فرنسا عام ١٨٠٤م . ذلك الطاغية الذي أعاد الطغيان إلى فرنسا و وزع المناصب على أسرته ، و دخل في مغامرات عسكرية دمرت البلاد و دمرته ، حتى انتهت مرحلة ( طغيان ما بعد الثورة على الطغيان ) بعزله و نفيه إلى أن مات في منفاه .

إذا كان ثمة دروس يمكن استنباطها من هاتان الثورتان اللتان تمثلان – كما أسلفنا – نموذجاً جوهرياً لثورات العالم الحديث ، فإن أول تلك الدروس هو أن الثورة تبدأ بطغيان اقتصادي تجاه طبقة بعينها ( في فرنسا و بريطانيا كانت الطبقة الصناعية الجديدة بشقيها : المُلاك و العمال ، و ليست تلك الطبقة المسحوقة في ظل الإقطاعيين أو تلك الطبقة العليا من رجال الدين و النبلاء ) ، و أن ذلك الطغيان الإقتصادي سرعان ما يصحبه طغيان سياسي لِلَجم الأصوات التي تحاول رفض الطغيان الإقتصادي ، ثم يأتي حدثاً فارقاً يمثل عود الثقاب ليشعل بذلك انضمام الشعب إلى تلك الثورة ، لتصبح ثورة شعبية كما وصفها سلامة موسى .
من هذا الدرس يمكننا أن نرى ذلك الطغيان الإقتصادي الذي عم البلدان العربية قبل عام ٢٠١١م ، و الذي تحول إلى طغيان سياسي يشد البلدان العربية نحو الوراء على مسار الدمقرطة و الإصلاح .. معاكساً للحركة التكتونية البشرية – إن جاز التعبير – التي تسير إلى الأمام بخطى حتمية . لكن ذلك الطغيان الإقتصادي لم يقتصر في الحالة العربية على طبقة بعينها ، بل امتد ليشمل كل الشعب باستثناء زبانية الأنظمة السياسية ، فكانت الثورة إنفجارية ممتدة بعد أن أُشعل عود الثقاب في تونس ، بتلك اللطمة التي ألقتها الشرطية ” فادية حمدي ” على وجه بائع العربة ” محمد البوعزيزي ” .

أما الدرس الآخر فهو الأهم و الأجدر أن نستوعبه لكي لا يتسلل اليأس إلينا متعمداً إغفالنا عن ذلك السياق التاريخي للثورة ، و هو أن الثورات – حتى أعظم تلك الثورات – تبدأ حين نجاحها مخاضاً عسيراً يصحبه ولادة طغاة جدد أشد بأساً من سابقيهم ، و لكنها سرعان ما تبتلعهم ، فتغلق بهم صفحة تهميش الشعب إلى الأبد!

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى