سُطوع الّلامدرَسيّة وصَحوة التّعليم المَنزلي

سُطوع الّلامدرَسيّة وصَحوة التّعليم المَنزلي
د. جودت سرسك

نشرَ التربويّ جُون هولْت عام 1976 فكرة البديل عن التعليم المدرسي ،وأعدّ مجلّة تحت عنوان: النشأة بدون مدارس،وقد لاقتِ الفكرةُ انتشاراً وشيوعاً في أميركا وشمال أميركا وبريطانيا وأوروبا. لقد انتشر التعليمُ المدرسيُّ وزادتْ نسبتُه في أميركا مثالاً ممّا نسبته 1.7 إلى 2.9 ما بين عامي 2009إلى 2012 حسب موسوعة الويكيبيديا الموثقة على صفحات الإنترنت.
حيث بدأ التربويون يتساءلون عن جدوى التعليم المدرسي الإلزامي وطرح البديل وتبيان ميزاتِه وفوائده وكيف يراعي الفوارقَ الصحية والاجتماعية.
لقد حافظ التعليمُ المنزليُّ اللامدرسيُّ على إنسانية الإنسانِ والحفاظ على خصوصيته العِرقية والدينية والاجتماعية.
لقد انتشر الإنترنتُ وأصبح مِن المتاح أمامَ الجميع تلقّي التعليم بكفاءةٍ عالية ،حيث يتحكّم في وقتِ درسِه وعدَد مرّات تكرار الحصّة الدرسية بعيداً عن مِزاج مقدّم الخدمة ،ومدى ملائمة الجوّ المدرسي لإنسانية الطالب وحاجاته النفسية ،بعيداً عن التفرقة الاجتماعية التي تَظهر في نوعِ المدرسة وطبقاتِ المتعلّمين ولونِ زيّهم المدرسي وطَبَق الوجباتِ المُغلّف المُعدّ لهم مسبقاً.
لقد ألغي التعليمُ اللامدرسيُّ الفوارقَ الاجتماعيةَ والنفسِية ،وخفّف عناءَ شراء الزيّ والقرطاسية العقيمةِ التي لا طَعمَ لها ،فلا فرجار ومنقلةَ بعد اليوم فقد استبدله التعلّم عن بُعد ببرامج ترسم بمجرد تحريك الماوس عبر برامج الجيو جيبرا ،وخفّف من وطأة الأنشطة العبَثية في صناعة بُركانٍ لمدرّسِ علومٍ أو دائرة كهربائية أو لوحةً زيتية لا تعرِف لها مَكاناً سوى المخزن المدرسي، وما تلبثُ أنْ تُرمى دونَ ثوابْ.
لقد تعبتْ ظهورنا حين كنّا صغاراً من كثرة أحمالنا ،وتعبتْ أرجُلُنا مشياً للوصول إلى المدرسة التي كان حمارُ بني مرّة يقفُ على بابها ويحيّينا بتحيّة الحيوانات،لم نكنْ نعرفُ الربيعَ أو السيرض بين الحقول والبساتين،وكنّا نفرح حينَ يشتدّ الثلج ونترقّب إعلانَ تعطيل المدارس ونبتهج لهذا القرار.
لقد كان الطينُ يتنقّل من جِزمِنا القصيرة ويتسلّل حتى حزامِ الزيّ المدرسي الكاكيّ اللونِ، فتختلط الألوانُ بين طينٍ وبينَ زيٍّ مدرسي.
لقد أظهرتْ الكورونا فضلَ التعليم اللامدرسي وقيمتَه ،وكيف ألغى الفوارق الطبَقية بين أبٍ وأبّ ، لم يعُدْ الأبُ يحمل همّ القِسط المدرسي الأهليّ، بعد أنْ ارتحَلَ للتعليم الحكومي، وانكشفَ زيفُ التعليم الخاص، لم يعُد ينشغل بصَحوةٍ من الفجر،لا تشبه أحلام الرحّالة العبّاسي سندباد ،ولا أحلام فتاةِ القصصِ الحالمةِ سندريلا .
لقد حقّق التعليم اللامدرسي كرامة المتعلّم وأعاد للأسرة كرامتها الاجتماعية ووثّق عُرى العلاقات بيْن الأبِ وولدِه والأمّ وابنتها وغبروا أسرارهم،لا زيّ يحُدّ من حريّتهم ولا قلقَ امتحاناتٍ ولا رُعبُها.
لقد أوجدَ التعليمُ المنزليّ حالةً مِن السِلم والتخلّص مِن بُعبعِ الامتحانات العقيمة، وحفظ النصوص المُعيقة عن التفكير ،وتواريخ الحملات الصليبية وحضارات ما بين النهرين ،وبنود الدساتير الوضْعيّة وأرقامِ الصَفَحات.
قد يتساءل البعض من الأُسَر الكريمة التي لها أولادٌ في سنّ المدارس وقد اعتمدوا في تربيتهم على المدارس والمدرسين ،عَن فعالية التعليم عن بُعد، ويُلقون الّلوم على السياسات الحكومية التي ضيّعتْ مستقبل أبنائهم.
إنّ من ليس لديه قدرة على الاعتناء بأبنائه وتوجيههم ،فسيكون وجودُه في المدرسة حضانة قصرية لا عملية تعليمية بحْتة،وسيُثقل وجوده الطلبةَ المسالمين بالتّنمّر وتبادل الكلمات البذيئة والتحرّش بإنسانيتهم.ما زلتُ أذكر بائع سجائر المارلبورو الأحمر على إشارات المدينة حين كان يخرج المعلّم من حصته كيف يأمرُنا بالاستلقاء على الأرض ليمارس القفز والجري فوق ظهورنا،والمحظوظ من كان يتبع المعلّم بكرسيه الخشبي الأصفر هروباً من عبودية الصفّ.
لم يسمع لشكوانا مديرٌ ولا مدرّس ،ولم نجرؤ على شيءٍ سوى البكاء أمام ذوينا لمجرّد أن سقطت من أيدينا كسرة خبزٍ مبلّلة،لم يشفع لنا دخلٌ من وظيفة حكومية لتسديد قسط مدرسة خاصة على شحّ المدارس الأهلية آنذاك.
لقد آنَ الأوانُ أنْ يعرفَ المجتمعُ أن ّ التعليم المدرسي لا يصلح لحضانة المشرّدين والذين لا بيتَ يحتويهم،ممّا جعل المعلّمَ يتحوّل إلى مصدّ لبذاءات بعض الطلبة الذين ليس لهم أيّ قيمةٍ تعليمية داخل الغرفة الصفيّة، وتناسى وظيفته التي وُكّل بها وزرْع قِيَمِ الفضيلة والتعليم الواعي .
كم أثقلتْ وجوهَنا أكفُّ المعلّمين السفّاحين وأوجعتنا كلماتُ إهانتِهم وجبروتُهم وعِصيّهم ،وإرهابهم للنجيب قبل المتمرّد ،حين كنّا نرى رأس قلم الرصاص المدبّب يتخلل أظافره وخصلاتِ الشَّعر تُنتفُ في أكفّه الغاشمة، لا لذنبٍ سوى أنّه غفِل عن واجبه .
مازلت أذكر صفعةً فوق رقَبتي في أوّل سنين تعلّمي الانجليزية، في عُمر الحادية عشر، حين الصفّ الخامس في مدرسةٍ يتجاوز عددُها الألف والخمسمائة قطيع ، نُساق غنَماً إلى المذبح لا إلى مَنهج إقرأ باسم ربّك الذي خلق.
وجهةُ نظَرٍ تدعونا إلى مراجعة فكرة التعليم الإلزامي، واحترام حقّ الطالب في نمَط التعليم واعتماد منهج اللامدرسية ، والحفاظ على كرامة الفقير والمَنئِيّ اجتماعيا ، ولا يملك قسطاً أو تكاليفَ دفاترٍ يُكدّسها ويثقلُ عِبؤها ذويه: تغليفها وشراؤها .
لقد نجحتْ سياسةُ التعليم المدرسيّ البعيد بجَدارة ،ومَن لا يملك ثمنَ الاشتراك الشهري لخطوط الإنترنت ،فإنّ مصروف أبنائه اليومي وسندويشاتِ الوهْمِ وقرطاسيةَ العبَث وملابسَ العبودية المصغّرة ومواصلاتِ الطريق أكثرَ عبءأ من رسوم الانترنت،ولا بدّ من إشهار حقيقة أنّ المجتمع بحاجة أبنائه جميعاً العسكريّ والمدرسيّ والمهنيّ والتاجر، ولا نفع من تكديس الطلبة في صفوفٍ يعتدي فيها المتشرّدُ على المتعلّم تحت حجّة الاختلاط الاجتماعي والاندماج المجتمعي.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى