دور المثقف التنويري / د. محمد نعمان

دور المثقف التنويري

كيف يؤثر المثقف في المجتمع، وهل ينحصر دوره في تقديم وصفات لإخراج المجتمع من كبوته؟ واذا قدم هذه الوصفات وظل المجتمع على تخلفه فهل نحمل المثقفين مسؤولية الفشل؟
ان الافكار لا تغير المجتمعات، وانما يغيرها الفعل السياسي والاجتماعي والثقافي.واستعين هنا بمقولة المفكر الفلسطيني سلامة كيلة_ عندما تطرح الأسئلة على عامة الشعب فلتكن من الواقع المعاش وليس من الكتب_.

السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هذه الأيام :أيهما أسبق دمقرطة الدّولة أم دمقرطة المجتمع؟
والإجابة الأبرز على هذا التساؤل أنّ الدّولة الديمقراطية لا يمكنها أن تقوم على أساس مجتمع غير ديمقراطي،إذ لا بدّ من التكامل بين دور السياسيين الذين يناضلون من أجل أصلاح ودمقرطة الدولة، ودور المثقفين الذين يناضلون من أجل إصلاح ودمقرطة المجتمع.
ولا يمكن أن تقوم دولة القانون والمؤسسات على أساس مجتمع غارق في أوحال الجهل والتخلف ، تتفشى فيه قيم الهيمنة الذكورية،وعقيدة القطيع وتستشري فيه ثقافة تقديس الولاءات العشائرية، والتعصّب الأعمى وما إلى ذلك من أمراض ثقافية تنخر المجتمع، وتفسد السلوك المدني والتعايش المشترك، وتعيق بناء الدولة المدنية الديمقراطية.
ويتعلق الأمر هنا بخطين أو اتجاهين إصلاحيين متوازيين: خط يراهن على إصلاح الدولة كرهان سياسي، وخط يراهن على إصلاح المجتمع كرهان ثقافي.
عادة ما يسمى إصلاح الدولة بالإصلاح السياسي، ومجالاته هي الدّستور والقوانين والمؤسسات…. بينما يسمى إصلاح المجتمع بالإصلاح الثقافي، ومجالاته تكون بإصلاح القيم والسلوك والعادات والتقاليد والأعراف….

وهنا يختلف تركيز الجهد الإصلاحي من مجتمع إلى آخر، مثلا في مجتمع يسيطر فيه الحاكم المطلق أو الحزب الأوحد على كافة السلطات، يكون التركيز منصب في معركة الإصلاح السياسي_ الإصلاح الدّستوري.
أما في المجتمعات التي يكون فيها نمط التديّن المتأخر مهيمنا على كل شيء، يكون التركيز لمعركة الإصلاح الثقافي هي الإصلاح الديني، وهكذا تبدو أن محاور الإصلاح نسبية ومتغيرة من مجتمع لأخر ومن بلد لأخر.

وأيا كانت بؤرة الإصلاح الثقافي المنشود اليوم، والهادف إلى إصلاح المجتمع، فإن دور المثقفين التنويريين لا بديل عنه في هذه المحطة الهامة وهنا أود التنبيه لبعض البديهيات الأساسية“إن المثقف التنويري ليس بمعارض ولا بمساند للسلطة” لأنّ أفق المعارضين والمساندين على حد سواء يبقى دائما هو السلطة تحديدا، لذا يمكننا أن نعتبر المثقف التنويري بمثابة ناقد عام أو موجه عام دوره ليس أن يهيّج الناس لأجل طاعة الحاكم أو الخروج عنه _كما كان دأب الفقهاء على مر التاريخ، وإنما دوره يتحدد بتغيير نمط التفكير المجتمعي والذي قد تكون السلطة نفسها جزءا من أجزائه أو ثمرة من ثمراته.

في واقع الحال، حين يتخلى المثقف عن وظيفته في إصلاح المجتمع، فحينها يصبح النضال من أجل إصلاح الدولة مثل مناطحة طواحين الهواء أو الحراثة في البحر ،لأن الأصل في المعادلة أن الدولة الديمقراطية لا تقوم داخل مجتمع جاهل تسوده ثقافة القطيع.

هنا لا يتعلق الأمر بسؤال أسبقية إصلاح المجتمع على إصلاح الدولة، أو العكس، وإنما يتعلق الأمر على وجه التحديد بالتكامل بين كلا الخطين: خط النضال السياسي، وخط التثقيف التنويري.

مشكلة أخرى تواجهنا في الاردن أن العديد من مثقفي التجربة هجروا الثقافة وانخرطوا في السياسة، سواء عبر تأييد السلطة أو معارضتها،ظنا منهم بأنه من خلال وسائل وأدوات السلطة “الإستفادة من المنصب أو الوظيفة” أو عبر احتجاجات الشارع، يمكن تحقيق الأهداف، بمعنى أخر إعتقد البعض أن السياسة هي المدخل الرئيسي للتغيير والإصلاح،مما أدى الى تعطيل وظيفة المثقف التنويري،وزيادة في تجهيل المجتمع.

بلا شك إن حجم المقاومة الثقافية الشرسة التي تعرض لها بعض المثقفين ممن انخرطوا في أركان الدولة، وبدأ بممارسات إصلاحية في بعض المجالات وفق نظرية “استعمال مؤسسات الدولة لتحديث وتطوير المجتمع”، كان دليلا كافيا على أن تخلي المثقف النقدي عن مهمة التنوير لجمهور العامة قد يتيح “للجهل المقدس” وسائل تعطيل التنوير، في حين أن انشغال مثقفين آخرين بموضوع مجابهة سلطة الدولة، قد جعلهم في بعض الأحيان حلفاء موضوعيين “للجهل المقدس”.

إن “الجهل المقدس” الذي يستنفر الغوغائيات ويهيج الانفعالات السلبية يضع اليوم المثقف التنويري أمام خيارين: إما دعم جهود الدولة حين تحاول الدولة أن تفرض “التحديث” بالقوة على المجتمع، وإما الانخراط في مجالات التنوير للمجتمع لغاية تحديث العقليات السائدة بصرف النظر عن الموقف من السلطة. وأعتقد بأنني أقرب الى الخيار الثاني.

والفكرة الثالثة في هذه المقالة والتي كان من المفترض أن افرد لها مقال مخصص ولكن لا بأس من أطلاله سريعة لترابطها مع عنوان المقالة والحديث يدور حول مما عرف “بالربيع العربي”، حيث رأينا انحياز بعض المثقفين كليا لمعركة الحسم السياسي. وتلك كانت الخطيئة التي اعترف بها العديد من المثقفين العرب الذين انجرفوا وراء تلك الشعارات،لكن الأساس الذي تناساه الجميع _أن الدولة الديمقراطية لا تُبنى فوق مجتمع غير ديمقراطي.
تحتاج معركة دمقرطة المجتمع إلى المثقف التنويري الذي لا ينجذب كليا إلى مغريات الحسم السياسي، سواء أكان مؤيدا في أساسه أم معارضا بالأساس.

وبالفعل، جراء الحماسة الثورية الزائدة التي أثارتها ثورات “الربيع العربي” المغدورة، انتهى عدد من المثقفين العرب إلى اختزال معركة النهوض الحضاري في المستوى السياسي حصرا، بل اختزلها بعضهم في جانب واحد ووحيد من السياسة، ألا وهو إسقاط الحاكم على وجه التحديد، حتى أن البعض بشرنا بأن سقوط الاستبداد كاف لكي تنتهي كل مشاكل الإرهاب والفتنة والطائفية!! وهذا اختزال خطير وبالغ الضرر لأنه يترك عناصر التخلف الثقافي في منأى عن أي نقد أو انتقاد.

فلا مشكلة في الموروث الفقهي القديم المتغلغل، ولا مشكلة في الحقد الطائفي المستفحل، ولا مشكلة في النظرة الدونية إلى المرأة، ولا مشكلة في تعطيل العقل….ولا مشكلة في سيادة عقلية القطيع، بل ستُحل كل المسائل وتزول كل المشاكل منذ الوهلة الأولى لسقوط الاستبداد!!!
بل والأدهى من كل ذلك أن بعض المثقفين الثوريين تحالف مع عناصر التخلف والظلام ولو مؤقتا في المعركة لإسقاط هذا الحاكم أو ذاك. والجدير بالملاحظة أنه في غمرة الحماسة الثورية قد نسى البعض أو تناسى درس ميشيل فوكو، وهو درس بالغ الأهمية الذي يؤكد أن السلطة من وجهة نظر فوكو “ليست محصورة في مكان معين، أو داخل مربع محدد، إنما هي روح ثقافية تسري في كل العلاقات الاجتماعية والتفاصيل اليومية”.
إذا معركة المثقف التنويري هي معركة تغيير تلك الروح الثقافية البائدة. وأثناء ذلك يصبح الجهد التثقيفي من أجل إصلاح الدولة ممكنا.
في المقابل، يُخطئ من يظنّ بأنه قد يحارب التطرّف الديني عن طريق دعم الاستبداد السياسي، أو إلغاء الحريات الفردية؛ يُخطئ أيضا من يظنّ بأنه يستطيع أن يقاوم الاحتلال الإسرائيلي عن طريق الاستبداد الشمولي، وتقديس الزعامات، وإلغاء الحريات.

المعركة ضدّ التطرّف الديني، أو ضدّ الإرهاب، أو ضدّ الاحتلال، هي نفس المعركة بمختلف جبهاتها، معركة الحداثة السياسية في كل مناحيها وأرجائها، ذلك أن الحداثة مرحلة لا يكتمل بعضها دون بعضها الآخر. الحداثة روح تسري، ورياح تجري، وصيرورة تمضي، وعالم متجدد في كل تفاصيله وبلا انقطاع، إما أن نكون فيه، وإما سنبقى على قارعة التاريخ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى