العلماء والمتعالمون

#العلماء و #المتعالمون
د. هاشم غرايبه

يروى أن الشيخ “محمد متولي شعراوي” رحمه الله، كان شوهد أكثر من مرة وقد شمر عن ساقيه وهو يحمل دلو ماء وممسحة، ويهرع الى تنظيف دورات المياه العامة، كان يلجأ إلى ذلك كلما أحس بالخيلاء والزهو بنفسه جراء المديح الذي يناله والإطراء الذي يًطرب النفس عندما يُعجَب السامعون بسعة علمه وتبحره، كان بذلك يعاقب نفسه عندما يشعر أنها تاهت طربا بما تسمع، فيقوم بتلك الأعمال الوضيعة ليحاول أن يكسر غرورها ويعيدها الى واقع المناقص البشرية.
إن شعور الإنسان بتميزه عن غيره أمر يرومُه كل البشر، ووصوله الى مرتبة التفوق فالسيادة عليهم هي غاية المنى، لكن طريقها وعر ومحفوف بسلوكات غير حميدة، لذلك كان نزعها من النفس لا يقدر عليه كل شخص، فآخر ما ينزع من نفوس الأنبياء من شهوات هو حب الرئاسة.
أصحاب المال والجاه والسلطة ينالهم المديح عادة، لكن مادحيهم منافقون، فغالبا يسعون للمنفعة، أما مادحو المتفوقين في العلم فلا يبتغون تحقيق المصلحة الذاتية، بل هم يعبرون عن إعجابهم وتقديرهم للعالِم وما يقدمه.
مع ذلك فإن ذلك المديح قد يدفع الممدوح المستحق لذلك إلى التقدم في علمه إن حافظ على سمة التواضع، أما إن فقد هذه الخصلة فسوف توقعه في مهاوي السقوط من أعين الناس وبالتالي فقدانه ذلك الإعجاب.
كان الشافعي (على غزارة علمه)، يقول لمن يخالفه الرأي: إن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأيك خطأ لكن يحتمل الصواب.
في عصرنا هذا، ولعلها إحدى سمات الإندحار الثقافي والعلمي، وإحدى أهم أسباب الإنحدار في مستوى التعليم الجامعي في بلادنا العربية، أننا قد نجد كثيرين حازوا الشهادة العليا، فيما كان تحصيلهم في الدرجة الجامعية الأولى بدرجة متدنية، مع أنه يفترض أن لا يقبل في برامج الدراسات العليا إلا المتفوقون، فباتت نسبة حامليها في بلادنا أعلى منها في البلدان المتقدمة علميا، مع أن المفترض هو العكس.
كما أننا أصبحنا نرى كثيرا من هؤلاء قد وصلوا الى مرتبة الأستاذية الكاملة في بضع سنين، وهم ما زالوا في ريعان شبابهم، فيما نرى الأساتذة في الجامعات الغربية قد شابوا وانحنت ظهورهم قبل أن يبلغوها، وذلك لأن كل الأمور عندنا (حتى في العلم)، يتم (بالفهلوة) أي بالواسطة والرشوة والمحسوبية، وليست بالتأهل الحقيقي.
من هؤلاء تكونت لدينا خلطة عجيبة ممن استولوا على الطبقة العليا في العلم، إذ أقصوا العلماء الحقيقيين وقعدوا مقاعدهم، فيما لم يعمل أحدهم بحثا علميا ذا قيمة، ولم يضف الى رصيد المعرفة المحلية والعالمية قلامة ظفر، فجُلُّ ما قدمه من أوراق جمّعها من جهود طلابه، أو من القص واللصق من جهود آخرين.
من هؤلاء فئة يصل بها الغرور لدرجة أن يصنفك في مرتبة (الدراويش) لمجرد أنك تتكلم عن معنى وجود الإنسان وعلة خلقه، لأنه تربى في بيئة جاهلة بذلك، ومن فرط جهلها تعتقد أن البحث في الظواهر الطبيعية هو العلم، ولا يعلمون أن أصل العلم هو البحث في منشئها وعلة وجودها.
وعندما تسأله هل بحث يوما عن الإجابة فيما هو وراء تلك الظواهر، وهل سأل نفسه لماذا هي هكذا؟ ولماذا لا يملك العلم لها تعديلا أو تغييرا؟ وكيف اكتفى عقله بإجابة: لا أدري؟.
سيقول لك أنا لا أشغل عقلي بمثل هذه السفاسف!.
لو أن “نيوتن” لم يشغل عقله بالتفكر بأسباب سقوط التفاحة، وقال مثل قوله، هل كان سيكتشف شيئا من القوانين التي فتحت آفاقا هائلة من المعرفة!؟.
لا يوجد شيء تافه في الطبيعة، فحتى اوراق الأشجار المتساقطة خريفا، لم يتمكن الى اليوم أحد من فهم السر في ذلك، فلماذا لم يسأل هذا المتعالم نفسه مثل نيوتن: لماذا سقطت أوراق شجرة التين.. فيما لا تسقط أوراق جارتها شجرة الزيتون، مع أنهما في بيئة واحدة ويسقيان بماء واحد؟.
من السخف تفسير ذلك بالعشوائية، والأسخف منه القول أن الشجرة طورت ذلك بذاتها!.
هذه المسارات المحددة لكل شيء، منطقيا تعني أن الموجد لها هو من حددها: “قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى” [طه:50].
العلماء الحقيقيون يشغلون عقولهم بكل شيء، بظواهر وبكنهها، أما المتعالمون فهم: “يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ” [الروم:7].

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى