لغتنا العظيمة

#لغتنا_العظيمة

د. #هاشم_غرايبه

لعل القارىء سيتساءل لماذا غيرت هذه المرة العنوان المعتاد من لغتنا الجميلة الى العظيمة، جوابي أن هذه اللغة التي استطاعت حمل #القرآن_العظيم مبنىً، وتوصله الى الأفهام معنىً، لا شك أنها عظيمة.
ومناسبة هذا الحديث لما يكثر هذه الأيام من اللغط الغثاء حول أن جذور هذه اللغة سيريانية، فترى أذناب #المستشرقين الحاقدين، وعلمانيي الإنبهار بكل ما هو غربي المنقادين، يلتقطون كل عبارة يمكن أن يروا فيها ما يشير الى ذلك، وينشرونها متوهمين أنهم بنطحهم جبل تاريخ الأمة الراسخ، أنهم موهنوه، ستتكسر قرونهم وتدمى جباههم من غير أن يفتتوا حصاة صغيرة.
أحدث محاولاتهم، قولهم أنهم اكتشفوا أن كلمة “مرحبا” أصلها سرياني وتتألف من مقطعين: (مار) وتعني إله أو قديس، و(حب) وتعني المحبة!..
يا لسخافة هذا الإكتشاف!، فلو عرفوا لغة قومهم ما ذهبوا الى هذا التفكيك العجيب، فالترحيب من رحّب، والرحابة هي الإتساع، لذا يقال للضيف مرحبا بك للدلالة على رحابة البيت واتساعه لك، ويقول الفراهيدي في كتابه “العين”: “والعرب تقول: مرحبًا وأهْلًا، ومعناه: نزلت رُحْبًا، أي: سعة، وأتيت أهلًا لا غرباء”.
في المقابل سأورد أمثلة على جزالة ألفاظ هذه اللغة، واتساعها الهائل لحمل معاني لا يمكن لأية لغة أخرى حملها، ناهيك عن لغة بدائية كالسريانية، ماتت من قرون، لولا التمسك بها من قبل أقلية تقاوم الإندثار.
نجد في العربية ألفاظا لأفعال تتكون من حرفين متكررين، وهذا التكرار اللفظي يفيد معنى التكرار الحركي، مثل: (قصقص) فهي تختلف عن فعل القص، الذي يعني فصل جزء من شيء يمكن قصه بآلة المقص، لكن القصقصة هي توالي القص وتكراره.
والأمثلة كثيرة، فلفظة (أفضى) تعني قال شيئا مما يكتمه، أما (فضفض) فتقال لمن يبث كل ما يكتمه في صدره لقريب أو صديق ليفرج عن نفسه.
ويقال: هدّأ من روعه إذا بث الطمأنينة والهدوء، فيما يقال: هدهدت الأم طفلها، عندما تربت عليه بشكل متتابع لتهدئته وقد ترفق ذلك بغناء لحن رتيب هادئ حتى يغفو وينام.
لقد استعمل الله عز وجل هذه الخاصية اللغوية، لإيصال المعنى المطلوب بشكل لا يقبل اللبس، وذلك تطبيقا لسنة كونية أوجدها وهي الحركة الجيبية الإهتزازية المعروفة في علم الفيزياء، مثل حركة البندول في الساعة الميكانيكية، ومن صورها المعتادة الحركة التوافيقة البسيطة، وهي حركة إهتزازية في خط مستقيم يتناسب فيها تسارع الكتلة طرديا مع مقدار الأزاحة، و يعاكسها في الإتجاه.
تطبيقا على هذه الحقيقة، جاءت ألفاظ في القرآن كثيرة بنيت على الوزن ذاته، لتفيد الحركة الإهتزازية (جيئة وذهابا) والأمثلة عليها عديدة أذكر منها:
كلمة (دمّر) تفيد الإنهيار وسقوط البنيان، لكن (دمدم): لم يعد أثر لما كان قائما بفعل التدمير المتواصل، لذلك جاء قوله تعالى في وصف عاقبة جريمة أصحاب الناقة: “فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهاَ” [الشمس:14]، لأن تسوية البنيان بالأرض يستلزم هدما كاملا لايبقي عالياً ويملأ ما كان منخفضا بالردم حتى تصبح المنطقة مستوية، وهذه الصورة التي تفيد معنى (فسوَّاها)، لذا فالدمدمة هي تدمير متكرر ومتواصل أي تدمير ذو اتجاهين أحدهما يهدم والآخر يملأ الفراغات.
وكمثل ذلك تأتي: “إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا” [الزلزلة:1] فالهزة الأرضية مفردة والزلزلة هزات متكررة وتتلو كل هزة، هزة أخرى ارتدادية في اتجاه معاكس، وجاء تبيان ذلك في قوله تعالى: “َيوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ” [النازعات:7]، وهذا إعجاز علمي آخر يثبت أن القرآن ليس من عند البشر، فلم يعرف أن هنالك هزات ارتدادية إلا في العصر الحديث.
وتأتي (حصحص) في قول زوجة العزيز:”الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ” [يوسف:51]، لتعني أن الحقيقة ظهرت بعد غربلة كل الأقاويل، والغربلة هي حركة اهتزازية جيئة وذهابا لفرز السليم عن الشوائب.
وبالمثل نستطيع أن نفهم المعنى الفارق بين قوله تعالى “كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ” [آل عمران:117]، و”وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ” [الحاقة:6].
وعلى المنوال ذاته نفهم معاني ألفاظ مثل : زقزق، عسعس، رفرف، زعزع.. وغيرها.
فهل اللغة التي تمتلك هذه القوة العظيمة بحاجة الى الإستيراد من لغة هزيلة منقرضة!؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى