دكاترة ميّة النار / يوسف غيشان

دكاترة ميّة النار

المكان:باص عمومي على طريق مأدبا عمان.
الزمان: ذات صباح عام 1962 تقريبا.
-«يمّه الأشجار بتركض راجعة ع مادبا».
لم تعرني امي أدنى اهتمام،كانت تستمع الى صديقتها بشغف، وهي تحدثها عن سبب التباعد الذي حصل بين زوجها وجدّي والد أمي. فهمت من القصة بأن عباس زوج بهية ركب مع جدي على حمار وانطلقا الى القرى المحيطة في مادبا للأسترزاق، حيث كان لجدي دكان لتبييض الطناجر النحاسية، وقد اخذ عباس مساعدا له وشريكا في الغلّة.
وصل جدي وتبعه عباس الى اول قرية في شريط الجوع المحيط بالبلدة، مثل نتوءات باهتة على حواف الصحراء. فور وصولهما ارسلهما الأهالي الى بيت كبير يتوسطه رجل كبير بالسن، يعاني من تورم في ركبته بشكل يعجزه عن المشي. وطلبوا منهما معالجة المريض طبعا.
اخرج جدي زجاجة (مية النار) التي يستخدمها في تببيض الطناجر ودلق القليل منها في صحن، وأعطاه لعباس الذي رش السائل الحارق على الورم، انتشرت رائحة تشبه الشواء، صرخ الرجل بصوت غريب مع جعير وزئير ثم غاب عن الوعي، ارتبك القوم قليلا، ثم القوا القبض على عباس، وربطوه بإحكام على أقرب شجرة.
تشاور القوم فيما بينهم، ثم قالوا للطبيبين المزيفين، بأنهما سيحتجزان الى ان يفيق الرجل من غيبوبته، وان لم يفق سوف يقتلونهما.اشعل جدي سيجارة هيشي وتربع في ظل حماره، بينما كان عباس ينشج ملتصقا بالشجرة.
بعد ان انهى جدي سيجارته بنجاح، نهض بتؤده ورش الماء على وجه الرجل، وبعد دقائق مرت كالدهر عطس الرجل ثم نظر الى ركبته، فرك حول الحرق بأصابعه، ثم نهض على قدميه وسار بشكل سليم تقريبا .
اذا فقد نجح الأطباء المزيفون في تطبيب قدم الرجل، فرح القوم وهللوا، وفكوا وثاق عباس عن الشجرة .
لم تتوقف الأشجار عن السير على جانبي الطريق، لكني اهملتها قليلا وأنا استمع بتشوق الى قصة جدي وعباس، إذ ان الأهالي فرحوا، فاطلقوا العيارات النارية في الهواء ابتهاجا، وأولموا لهما خروفا مسمّنا، ثم منحوهما كميات من اللبن الجميد والسمن أجرا لهما على تطبيب الرجل المسن، حملهما عباس في كيسه.
خلال عودة الطبيبين المزيفين الى البلدة، لم يصبر جدي، وطلب من عباس ان يقتسما الغنيمة، لكن عباس رفض القسمة وقال ان الأجر من حقه بالكامل.
سأله جدي، وهو بين المصدق والمكذّب عن السبب، فقال عباس:
-مين اللي صلبوه مثل المسيح..انا والا انته؟؟؟
غضب جدي وأنزل عباس مع الغنائم عن الحمار، ثم ركب حماره وتركه في وسط الطريق.
ضحكت امي، لكنها كانت حريصة ان لا يسمع احد في الباص ضحكاتها سوانا. امتلات عيون امي بالدمع واكتظ انفها بالمخاط خلال محاولتها كتم الصوت.
ارتاحت بهية؛ لأنها اضحكت امي، التي لم تغضب جراء ما حصل لأبيها، فشرعت بهية في الحديث عن زيارتها للدكتور نقولا، الذي بعد ان اجرى لها بضعة فحوصات قال لها:
-انتي لازم تتحمّي….. معاكي كسترول.
هكذا قالت المراة، لم افهم مدلول الكلمة، سألت أمي، فسكتتني، وتنبهت الى ما ستقول المرأة:
-وشو هوه الكسترول يا دكتور؟
قال لها الطبيب:
-يعني لما بدك توكلي جاج.. لا توكلي الجلدة معها.
-ول يا دكتور… بدك تحرمني من حصتي؟؟؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى