أيلول و شقيقة روحه

[review]


أيلول و شقيقة روحه


في لحظة أطلق فيها غضبه على كل من حوله، فجرّ في داخله قنبلة ملأتها السنون والأيام، لطالما قادته أقداره إلى أماكن وشخوص لا يبغضهم إلّا أنه لا يستسيغهم، زمجر بكلمات غاضبة غير مفهومة، مارس سطوة استثنائية يمارسها الرجال احيانا، ثم صفق الباب خلفه وخرج…


خرج من بيته تاركا وراءه كل ما يكره، بكاء أطفاله، روتين حياته، وشريكة ما أحبها يوما …

مقالات ذات صلة


في اعماقه قرر أن يعود إلى أجمل أيام عمره الغابرة، هو على يقين بأنه لن يستطع عيشها كما كانت ، ولكن جزءا بسيطا من عبقها كفيل بأن يعيد إلى روحه الحب والأمل والحياة…


ودّع ضجيج المدينة التي ما حملت له الحب والسعادة يوما، قادته قدماه تجاه ذلك المكان الذي يعشق، مكان فيه حرّيته وحبسه معا…


في ذلك المكان كانت تضمهم أحضان القرية النائية، بين طرقاتها يركضون، وعلى أسطح بيوتها العتيقة يتقابلون، كم أحبها وكم أحبته، كانت ترى في عينيه جمالها وبهاءها، ويرى في عينيها لذة الحياة وعشقها، طالما راقبته في كل تحركاته، بسيره على طرقات قلبها، بجِلسته على قمة ذلك الجبل ينظر إلى حيث تعيش ، حتى في هندامه، عشقت قميصه المقلّم وحزامه البني…


تنتظره صباح كلّ يوم ليحمل لها من الحب والعشق ما تروي به روحها المتعطشة ،ذكرياتهم كُتبت في كل مكان على تراب تلك الطرقات الضيقة، وعلى جذوع أشجار الكينا، حفرت على أحجار تلك الكومة بجانب ذلك البيت الصغير والذي يحمل بين أركانه حبّا عظيما…


ومرت الأيام وشريط الذكريات يجري امام عينيه فكم عشقا وتمنيا وزرعا بساتينا من الأحلام وكم نسجا بيوتا من الأمان…وفي ليلة سألا فيها القمر وناجيا النجوم، استشار هو أوراق الدالية المتكئة على نافذة غرفته بموعد مناسب يقابل فيه أهلها، بينما انشغلت هي بالفستان الذي سترتديه، وبالطريقة الأمثل لكسب ودّ أمه…


قررا أخيرا بأن ليلة الخميس هي الموعد المناسب لإعلان ارتباطهما …


لم يشعر بنفسه وهو يحاول الظهور بأفضل طلّة، ولم تشعر بنفسها وهي تغني وترقص كأنما أهداها الكون السعادة بأسرها، زيّنت عنقها بوشاح، وسرّحت خصل شعرها الأحمر الحريري، وضعت الكحل الأسود في عينيها اللتين تبرقان املا بذلك الموعد…


قُرِع الجرس، اه كيف لها أن تخفي لهفتها!، دخل هو وأمه وآماله، تكلموا سريعا واتفقوا على ارجاء الرد حينا، ما علمت هي ولا هو بأن القدر سيقف أمامهما في هذه المرة، ودّعوهم وخرجوا، غمزت له بعينها غمزة حملت شوقا وحبا تخفيه عمّن حولها خوفا وحياء …


دخلت غرفتها، بدّلت ملابسها وأمسكت قلمها ودفتر مذكراتها وشرعت بالكتابة الى أن دخلت أمها لتخبرها بان ابن عمها سيكون من نصيبها فقد رفض والدها إخراجها من نطاق العائلة وقال بأن ابن عمّها هو الأحقّ بها .. صمتت ثم همست : تبا لتلك العادات البالية…


كادت تُخرِج كلمة تعارض فيه ما سمعت، تدافع عن حبّها وموقفها، إلّا أن أمها أخبرتها بان والدها قرر ذلك وهي أكثر الناس علما بقرارات والدها، ثم أغلقت الباب وخرجت …


صُعقت ودُهِشت وانهمرت الدموع من عينيها، لم يغمض لها جفن في تلك الليلة ، وما ان شقّت الشمس طريقها حتى ذهبت إليه، أيقظته من نافذته، أحسّ هو بخطب ما، أخبره قلبه وذبول عينيها بذلك ..


خرج وإيّاها وأخبرته بكلمات غيّرت مجرى حياتهما،سألها : ماذا أصنع بعمري من دونك؟، كيف سأقضي أيامي وساعاتي ؟، بكى بصمت، وتنهد تنهيدة حزنت لأجلها العصافير على الأغصان ولكن هيهات…


ومنذ ذلك اليوم لم يرها إلا مرتين، في يوم زفافها الذي لم يكن في حسبانه يوما بأنه سيكون فيه من المدعوين، وفي يوم سفرها مع زوجها…


ترك المكان ليودع ماضٍ يؤلمه، ضاع بين اللوم واللوعة، بين الهوى واللمم، بين الخصم والحكم، بين الحلم والقدر…


ذكرياته أتعبته، عاد إلى حيث يجلس، ناداها وناجاها: يا غزالي الذي شرد، تركتني مقلتاك سُدى، لطالما واسيتُ نفسي بأني سأراك غدا، وأظن حتفي دون غدِ، عودي إليّ يا قمري ، عودي وسيمحو نورك الخفر والهمّ والحزن، أنت دائي ودوائي، أنت دائي الذي لم أجد دواءه …


صرخ بتلك الكلمات ثم سبحت الدمعة في عينيه، تمنى لو أن شوقه قوّة، لكانت ردّت له أيام صباه وردت له عشقه كذلك، ولكن ما باليد حيلة…


أخذت الرياح حوله تجئ وتذهب، وأخذ الجوّ يتغير، أحسّ بقشعريرة في جسده فحمل نفسه وهمّ بالعودة إلى حيث يكره، إلّا أنه لا يملك خيارا اخر…


وضع بصمة فؤاده على الرياح وأخذ عليها عهدا بأن توصل شوقه ووفاءه إلى محبوبته وليلاه، بعث حزنه مرسالا ومشى…


كلّ ما في أيلول يذكره بها ،لون السماء قبل الغروب، أسراب الطيور المهاجرة، أوراق الشجر الصفراء المتساقطة، كلّ هذه الأشياء أعلنت قدوم أيلول والخريف…


عاد أيلول وهي بعيدة، بغيمة حزينة قمرها وحيد، يُبكيه شتاء أيلول، يُعيده إليها، فكم تشبه ليالي أيلول عينيها…


تمنى لو أن تنسى الريحُ أشجار الحور، أن يغيب القمر، أن تطول الليالي، إن نسيت شقيقة روحه لقاءهم الأول في أيلول، وأن يبقى غريبا هو وأيلول ينتظران عودتها…


بقلم : ريم الشيّاب.


rmshiyyab@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى