بيت جَدّي / أحمد المثاني

من طين الأرض و حجارتها ،بنى جَدّي بيته ، و رفع قواعد بيته على ” وطاته ” في قلب قرية تقع على خاصرة سهول حوران .. على باب مدينة إربد .. إنها الصريح .. تلك القرية التي تطالعك سهولها بخضاب الحنّاء ، و حمرة تربتها ! كان بيت جدي مجبولاً بعرقه فهو يعرف كل حجر فيه ، و كل حفنة تراب ، امتزجت بماء المطر و شربت من شعاع الشمس .. بيت جدي لم يبنه مهندسون ، و لم ينزل به عطاء .. لمتعهدين .. كانت دار جدي من غرفتين ، كل واحدة تسمّى بيتاً .. فالبيت الشرقي يعني الغرفة الشرقية من الدار .. و هكذا البيت الغربي .. كان بيت جدي مشرعاً للشمس و للمطر و للريح .. تحمل ثقل جدرانه السميكة ” عقود” نصف دائرية .. و كان للحيوانات ، من غنم و خيل مأواها و نصيبها من الدار .. و ذلك بما يعرف بالخان .. و هنا يتعايش الانسان مع الطبيعة .. نباتها و حيواناتها .. كان البئر يتوسط ” حوش ” الدار .. و البئر يختزن ماء الشتاء .. ليكون مصدر الشرب .. ماء عذبا .. باردا أيام القيظ كانت بوابات الدار كبيرة الحجم و هي من الخشب الذي لم تعبث به كثيرا يد النجارين .. لأن سمة البساطة تشمل كل ما في الدار كانت الابواب تصدر صريرا .. مازلت استرجع ذلك الصوت .. حين قدوم ضيف أو رجوع غائب .. مع صوت عال ينادي من خلف السور ابو محمد .. فلم يكن حينها أجراس تؤذن بالقدوم .. كان بيت جدي عالما من السحر لي و لطفولتي حينما أزور دار جدي قادما من المدينة .. لأجد حياة عنوانها البساطة و المحبة .. فكل بيوت القرية مبنية على الحب و هي تتجاور و تتكىء على بعضها حتى أنك تسمع عطاس جارك ،، و تسمع أحاديثه و أسراره .. لكن الكل سعيد بهذه الحياة .. كان بيت جدي تزوره الشمس من شبابيكه و من كوة .. في أعلى .. و كانت طيور السنونو .. تعبر مطمئنة .. و تبني أعشاشها بما تجلبه من طين بمناقيرها .. تبني تلك الأعشاش على جسور و جذوع الأشجار التي تصطف حاملة ثقل سقف البيت .. كان جدي فارع الطول بعينين خضراوين .. و كان عطوفا و شفوقا على أحفاده .. و أنا القادم في ضيافته .. و كان جدي فلاحا نشيطا .. يحرث الأرض و يزرعها و يحصد قمحا بلون الذهب .. قمحا يستحيل الى طحين و خبز بلدي تصنعه جدتي و تخبزه في فرنها الطيني .. فتنتشر رائحة الخبز كأجمل العطور ..و كانت جدتي اذا ما زرتها .. تطارد دجاجاتها و أفراخ الدجاج ، لتمسك بديك ، و تذبحه و تحمّره في فرنها .. فأيضا تنتشر رائحة الديك المشوي .. بما يفتح الشهيّة .. بيت جدي كان منتجعا لي و مقصدا في عطلتي .. و كنت أجد فيه سعادة لم تعرفها بيوت الاسمنت و الرخام و القرميد .. كان عنوانه البساطة . . و كانت تطمئن نفسي و تغتسل روحي في تناغم عطف الجدود .. و خيرات الأرض و السماء .. و الألفة بين الجيران و الأقارب .. .. أخيرا ، رحل جدي و رحلت جدتي إلى دار البقاء .. و ظل بيت جدي لسنين .. يردد صدى ضحكات مسامرات الأحباب .. و ظلت تلك “العقود” .. عقدات البيت .. شامخة تشهد على عصر جميل .. الى أن استسلم البيت لحضارة الجرافات .. فذهب البيت و غابت الذكريات و طويت .. و انتصب بيت اسمنتي على أنقاضه .. رحم الله جَدّي .. و رحم الله جَدّتي .. و كلّ من طواهم الموت و أسدل عليهم ثوب النسيان !

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى