مُـتـلازمـة الثقافة و الـبـدلات الرسمية!!!! / د . ناصر نايف البزور

مُـتـلازمـة الثقافة و الـبـدلات الرسمية!!!!
مما لا شَكَّ فيه أنَّ رِقي الأمَمِ قد يُنظرُ إلى تجلَّياته من الجانب المُعاش للحضارة بأشكالها المدنية و العمرانية و التكنولوجية و منظوماتها المادية المحسوسة! و لكنَّ هذا المنظور قاصرٌ و خادعٌ و زائل و لا قيمة له بالمفهوم الحضاري العلمي الذي يستمِدُّ شرعيته و ديمومته من عُمق جذوره الثقافية و أصالته المعرفية و كُنه و جوده الفكري و التراثي المرتبط بجوهر الإنسان الصانع للحضارة و الزارع لبذور الثقافة و الراعي لغرسها و جني ثمارها اليانعة!

و هذا ما تعكسه الفكرة الجوهرية لسِرِّ تكريم الإنسان و تميُّزِه عن باقي المخلوقات بقدرته على التفاعل الفكري و المعرفي و الإدراكي بصفته الفريدة كموجِدٍ للثقافة “Homo-Culturalis” كما يُعبِّرُ عن ذلك عِلم الاجتماع و الانثروبولوجيا!

فلو كانت الغلبة للبأس و الشراسة، لتسيَّدت الاسود العالم! ولو كانت العبرة في القوة الجسدية و الضخامة، لحَكَمَت الفيلة هذا الكوكب! و لو كانت للبهاء و الحُسن، لأصبَحَ الطاووس رَبَّا من أرباب الكون! و لو كانت الأمور تُقاس بالرشاقة، لكانت الغلبة و الحظوة للقرود و السعادين! و لو كانت للسرعة لصالت الغزلان و جالت و لتبخترت الفهود بالسلطان! ولو …. ولو …. ولو….!

لكِنَّ الله خصَّ البشر بعقلٍ جعله مناطاً للتكليف لعلمه المُطلق بكرامة العقل و منزلة أصحاب العقل من أولي النُهى و العلم و مِن ارباب الحجايا لما يُمثِّله هؤلاء من أهميّة في بقاء الجنس البشري و تفوّقِهِم على سائر المخلوقات لضمان خلافة الخالق في الأرض إعماراً و إزهاراً و إصلاحاً! لذلك فقد امتدح الله العُلماء في غير موضعٍ فقال جَلَّ في عُلاه “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ”!

و في أزمنة الانحطاط الفكري و العلمي و الثقافي لِكُلِّ أمَّة، يُحاول بعضُ أصحاب أنصاف العقول أو أشباه العقول أو اللاعُقول الانبراء لتَصَدُّر المشهد الثقافي و الفكري إمَّا لمالٍ جمعوه أو سرقوه، أو لجاهٍ و رثوه أو زعموه أو لمنصِبٍ توَلّوه أو استولوا عليه! عندها تَعَمُّ البلوى و تنقلبُ الموازين و تنتكِسُ القِيَم؛ فتَضمَحِلُّ الثقافة و تتردى العقول و يَكثُرُ اللمعقول! و هذا ما عَبَّرَ عنه الصادق المصدوق الذي لا ينطقُ عن الهوى في نبوءته عن علامات الساعة عندما قال: “و يتكَلّمُ الرُويبضة”؛ فعَجِبَ الصحابة و قالوا: “و ما الرويبضة”؟ فكان الجواب الشافي الوافي على لسان أبلغ البشر و سيّدهم و سيِّدِ ولدِ آدم: “الرجل التافه يتكلم في أمر العامَّة”، و في رواية أخرى “الفويسق”!

أجَل هذا هو زمَن “الرويبضة” و زمن “الفويسقة”! يقوم أحدُهُم بارتداء الملابس الفاخرة و يتصدّر و اجهة المشهد الثقافي و الفكري ظَنَّاً منه أنَّ مِتراً أو مترين من القماش قد تستُر عورة عقله المعطوب أو تواري سَوءة فكره السطحي المشطوب!

أجل يا سادة هذه هي مُتلازمة “البدلة الرسمية” التي غَزَتْ عقول الدهماء في مُجتمعاتنا العربية فاعتقدوا أنَّهم قد يخدعون الناس بحُسن قيافتهم و هندامهِم وأنَّ ذلك قد يزيدهُم شرفاً و رِفعة؛ و لكن هيهاتَ، هيهاتَ هيهات! فالقماش يواري عورة الجسد، أمّا عورة العقل فلا يواريها مالٌ ولا جاهٌ و لا منصبٌ ولا قَشَبٌ ولا نَسَب! و هذه هي خُلاصة حكمة العرب في هذين البيتين الجميلين:

ولم أرَ مِـثـلَ الفـقـر أوضع للفـتـى

ولم أرَ مثـلَ الـمال أرفـع للـنــذل
ولم أرَ من عــدمٍ أضر على الفتى

إذا عاش بين الناس من عدم العقل

!!! واللهُ أعْلَمُ وأحْكَم…!!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى