برلمان الختم المطاطي / موسى العدوان

برلمان الختم المطاطي

بعد أن تمّ حل مجلس النواب السابع عشر في نهاية دورته عام 2016، وهو الكابوس الذي جثم على صدورنا مع حكومة الدكتور عبد الله النسور لأربعة سنوات عجاف، اعتقدنا أننا سنلج مرحلة جديدة، بحكومة وبرلمان أفضل من سابقتيهما. لن ننسى أن حكومة النسور قد سنّت سنّة غير حميدة، مؤداها الاعتماد على جيوب المواطنين، كأسهل حل للجباية وسد العجز في موازنة الحكومة، بعد أن أرهب المواطنين بشعاره المعروف : إما فرض الضرائب أو سقوط الدينار.
استجاب المواطنون لهذا الشعار انسجاما مع حرصهم على مصلحة بلدهم، رغم أن الحكومة قد تعسفت في استخدام هذا الشعار، من خلال رفع الضرائب القديمة وفرض ضرائب جديدة، مستغلة ذلك التجاوب الوطني لتنفيذ أهدافها الجبائية. فأفرغت جيوب المواطنين من قوت أطفالهم، ودمرت الطبقة الوسطى وحولتها إلى طبقة الفقراء. تم هذا بموافقة البرلمان السابع عشر، الذي كان اهتمام معظم أعضائه منصبّا على تحقيق مصالحهم الخاصة، وإثارة المشاجرات بين أعضائها تحت قبة البرلمان، والتغيب عن الجلسات الهامة.

في أواخر عام 2016 جرى انتخاب أعضاء المجلس الثامن عشر، ترافقه حكومة الدكتور هاني الملقي الثانية، حيث رفع رئيسها شعار ” الحكومة خادمة للشعب “. ولكن فوجئنا بأن خادمة الشعب قد أحيت سلاح الحكومة السابقة في الجباية، وبدأت تسير على سنتها البغيضة، من خلال رفع الضرائب واستنباط ضرائب جديدة على المواطنين، بحجة تغطية العجز في موازنة الدولة، دون التفكير في إيجاد مصادر أخرى تسدّ هذا الباب.

وزير المالية في تبريره لرفع الضرائب، خاطب أعضاء مجلس النواب قائلا : إذا لم نرفع الضرائب فمن أين سنغطي عجز الموازنة ؟ إذ افترض معاليه أن جميع الأبواب الأخرى مغلقة أمامه، ولم يبقَ إلا هذا الباب الذي لا يكلف سوى جرّة قلم. أما بالنسبة للجنة المالية في مجلس النواب، فأفتت الحكومة للشعب بأنها متفهمة لعملية رفع الضرائب، الأمر الذي يمهد لمجلس النواب بالموافقة على فرض الضرائب كما تشاء الحكومة. أما خطابات النواب العنترية تحت القبة وأمام كاميرات التلفزيون، فهي محاولة لخداع ناخبيهم في الدفاع عنهم، بينما هم يوافقون في الخفاء على كل ما تطلبه الحكومة بعيدا عن وسائل الإعلام.

مقالات ذات صلة

في كتابه ” الإصلاح من أين يبدأ ؟ “، وجدت ما كتبه الدكتور عاطف الغمري ما يعبر عن هذا الوضع ويغنيني عن المزيد من الحديث، وأقتبس منه ما يلي : ” ساد في لغة المؤسسات الدولية السياسية والقانونية وفي وسائل الإعلام العالمية، استخدام كلمة ( Rubber Stamp ) في وصف برلمانات الدول حديثة الاستقلال. وكان المعنى الحرفي للكلمة ( ختما مطاطيا أو بصمة )، لكن المعنى العملي المعبّر عن مضمون الكلمة، والذي بدأ يدخل مفردات اللغة فيما بعد، هو الموافقة على سياسة أو برامج الحكومة بدون تفكير أو مناقشة، أي باختصار التصويت بكلمة ( موافقون ) مهما كان الأمر.

والنتيجة أن السلطة التشريعية الممثِلة للشعب صارت ممثِلة للحكم، ولم يعد هذا الكيان حامل اسم البرلمان يملك شرعية الصفة التمثيلية للناخبين حتى وإن حمل الاسم. فهو في حقيقة الأمر لا يمثلهم بصرف النظر عن المسميات. فالعبرة بأداء دور السلطة التشريعية وليس بحمل اسمها وختمها.

وأصبح الموافقون بحركتهم التلقائية الأوتوماتيكية من أهم أسباب ( خراب الديار ) الذي حلّ بالدول التي استقلت، والتي ورثت عن حكم المحتل الأجنبي ثروات هائلة، توقعت الشعوب التي حرمت منها في عهود الاستعمار، أن تنعم بها في عصر الحكم الوطني. لكن ما جرى أن الحكم بعد الاستقلال لم يرث عن سابقه سلطة الحكم فقط، لكنه حرص على أن يرث عنها كذلك ميراث الاستبداد والاستئثار بالثروة، يديرها مجموعة من الموالين له، وليس الموالين للوطن أولا وأخيرا. فأدارها الأقل كفاءة كما أدار أقرانهم في بقية قطاعات الدولة. وكانت برلمانات ( الموافقون ) تدعم الانهيار الذي جرّ هذه الدول إلى التخلف، وجمّد قدراتها على أن تأخذ بأسباب التقدم، فتراكمت عليها المشاكل والديون وسوء سمعة الحكم.

… إن ما نحتاجه هو برلمان يوافق حين تكون الموافقة واجبة، ويرفض حين يكون الرفض أيضا واجبا. برلمان يراقب السلطة التنفيذية عن حق، يملك استقلاليته الكاملة، متحررا من قيود قيّدته بها السلطة التنفيذية، أو قيّد هو نفسه بها طواعية. برلمان لا يتوقف عند إشارة إغلاق باب المناقشة بالانتقال إلى جدول الأعمال، من غير أن يفتح الباب بلجان تقصي الحقائق، ثم مناقشة نتائج عملها للوصول إلى برلمان، يملك طرح الثقة بالحكومة ومحاسبة الوزراء، وسحب الثقة من الحكومة ومن الوزراء . . برلمان له حدود سلطته مثلما للسلطة التنفيذية حدودها “. انتهى الاقتباس.

والسؤال الذي يطرح نفسه في الختام هو : هل بقي بعد هذا التوافق غير الحميد بين مجلس النواب الثامن عشر وحكومة الدكتور الملقي، ما يمكن إضافته للدفاع عن مصالح المواطنين ؟ والسؤال الأهم من سابقه هو : هل نحن بحاجة إلى حكومة للجباية، ولمجلس نواب يمارس عمله بالختم المطاطي ؟ ؟ ؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى