في العمق

في العمق
د. هاشم غرايبه

بعد الدخول التركي عسكريا الى منطقة شرق الفرات التي توافقت كل القوى المتدخلة على الأرض السورية على إقطاعها للأكراد، يصبح السؤال غبيا: عما يتوجب علينا اعتباره عدوانا على أراضي دولة عربية، أم هو فقرة مستقطعة في سلسلة تدخلات خارجية في هذا البلد، لم تتوقف منذ أن فتح النظام الباب لذلك، حينما اتهم شعبه بأنه عصابات مسلحة، فاستنجد بأعداء المسلمين لقمع شعبه المسلم، فدخل سوريا كل الذين يتوقون لمحاربة الإسلام بادعاء محاربة الإرهاب.
لذلك لكي يكون حكمنا صائبا يجب أن نستعيد الوقائع، والتي ليست عنا ببعيد، إذ ليس بإمكان من اعتادوا التزوير والتلفيق أن ينسونا إياها.
كما في أية مشكلة في العالم، ما يحدد سيرورة الأحداث هو الموقف الأمريكي، والذي هو بما يتعلق بسوريا لم يعد لغزا، ولا يحتاج المرء الى التخمين لفهم دوافع قراراتها، فبعد أن رحبت بداية بالثورة على النظام السوري، رغم أنها لا تعتبره مارقا (والذي يعني بتصنيفها رافضا لإملاءاتها)، فقد حافظ على أمن الكيان اللقيط وسلامته بكل يقظة وحرص، لكن ذلك لم يشفع له، إذ أنها لا تأمن أن تنتقل السلطة لأيدي مخلصة، لذلك أرادت استباق تلك الإحتمالية، باستبدال النظام الذي بدا وكأنه استنفد صلاحيته، بنظام علماني آخر، وبحلة جديدة، وذلك بواسطة عملائها من الأنظمة العربية (الذين تسميهم من باب التسويق حلفاءها).
لما تبين لأمريكا أنها واهمة بقدرات تلك الأنظمة، واكتشفت فشلها في اختراق المطالب الشعبية الجارفة، التي تأكد أنها لا تريد غير الإسلام، أحست بالخطر، إذ أن وجود نظام سياسي إسلامي في بلاد الشام هو خطر أكيد على مخطط سايكس – بيكو، وبداية لانهيار السد المنيع الذي شكلته تلك الأنظمة أمام استعادة وحدة الأمة، لذلك استدارت الى الإتجاه المعاكس بدعم بقاء النظام، فسكتت عن تدخل إيران الطائفي لنجدة النظام الآيل للسقوط، ولما فشلوا استأجرت الروس لدعمهم، والذين هرعوا فرحين بأن فتحت لهم الأجواء ليعيثوا في أرض المسلمين فسادا، فهي فرصة ثمينة ليجربوا ميدانيا أسلحتهم التي صدئت من قلة الإستعمال، فلن يحاسبهم الغرب على إجرامهم بحق المدنيين لأن الضحايا مسلمون.
هكذا أصبحت تحكم الساحة السورية مجموعة قوى متناقضة، لكنها متوافقة فيما يتعلق بمبدأ اقتسام الغنائم بحسب المساهمة، ولما كانت أمريكا هي من تنال حصة الأسد فقد أوكلت إدارة حصتها وهي ربع سوريا التي تقع شرقي الفرات، الى الأكراد الطامحين بإقامة دولة لهم عليها، سكتت أمريكا الى أن قاموا بجهود جبارة وبدعم مباشر منها ومن شريكتها في اللعبة (روسيا) لينظفوا لها الساحة من التنظيمات الإسلامية، وكالعادة، لم تنتظر طويلا لكي تخذل عملاءها بعد انتهاء مهمتهم، فأعلنت انسحابها والذي يعني كشف ظهر الإنفصاليين الأكراد أمام الأتراك الذين كانوا يراقبون الوضع بقلق، ولن يسمحوا بقيام دولة كردية على حدودهم مهما كان الثمن، لأن ذلك يعني انضمام ربع الأراضي التركية لها.
هنالك هدفان للأتراك، ليس منهما احتلال سوريا، الأول: إزالة خطر انفصال المنطقة التي تحتلها قوات حزب العمال الكردستاني (قسد)، ليس حبا في وحدة سوريا بل خوفا من قيام الدولة الكردستانية، والثاني إقامة منطقة عازلة محمية من بطش النظام السوري لكي ترتاح من عبء حوالى أربعة ملايين مهجر سوري تحتضنهم تركيا بالإقامة فيها.
أمريكا وتابعتها روسيا تتفهم هذه الحالة، لذلك بعد أن استنفدت أغراضها من الأكراد، تخلت عنهم بكل بساطة.
لكن العربان الذين يتنافخون حماسة الآن ويتنادون لعقد الإجتماعات، بحجة الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، فهؤلاء حينما دخلت القوات الأمريكية وحلفائها الأوروبيين والإيرانيين والروس، الأرض السورية فعليا بلا استئذان من أهلها، لم ينبس أحد منهم ببنت شفة، كما أن الدولة السورية التي ينتصرون لها الآن، تلوذ بالصمت حيال انفصال منظقة شرق الفرات فعليا، والتي لا يرفع فيها العلم السوري منذ سبع سنوات، بل علم (قسد).
العملية التركية كشفت أن حماس العربان ليس لسوريا، بل كيدا بنظام أردوغان كونه كشف عيوبهم وكيدهم بالإسلام.
وأن النظام السوري الذي تخلى عن سيادته على ربع سوريا، طوعا أو كرها، إما مفروضة عليه تجزئة سوريا ومغلوب على أمره، أو أنه لا يملك القرار السيادي، بدليل أنه الأقل استنكارا للتدخل التركي، أو أنه منخرط في المؤامرة الأكبر منه، وما يتم هو المهر المتأخر للبقاء في كرسي الحكم المهين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى