المطّاط وعدم الانضباط

#المطاط وعدم #الانضباط

فؤاد الجندي

للمطّاط ميزات عديدة ، ربّما أهمها على الإطلاق هي المتانة العالية المترافقة مع مرونة منقطعة النظير ، لذلك نجده يدخل في العديد من الصناعات المهمة مثل إطارات السيارات والملابس والأحذية والأجهزة الكهربائية وحتى المحركات ، والقائمة تطول ، لكن هذه المادة المهمة مهددة بالفناء بسبب الآفات الزراعية والتغير المناخي وقانون السوق في العرض والطلب خاصة إذا علمنا أن %85 من الإنتاج العالمي للمطاط الطبيعي مصدره من صغار المزارعين في تايلند واندونيسيا وماليزيا والصين وبعض الدول في غرب إفريقيا.

دائما كنت أستغرب وصف بعض أصحاب المواقف غير الواضحة أو المتناقضة وخاصة في عالم السياسة بأنهم أصحاب مواقف مطاطة ، لأني كنت أرى أن المتانة والقوة والقدرة على تحمل الضغط مع المرونة العالية ميزات جيدة في أي عمل ، سياسيا كان أو غيره ، وربما كان الأجدر بوصفهم أنهم أصحاب مواقف هُلامية ومتلونة ، فكما نعلم أن من خواص الهلام أنه يتقولب حسب الحيز المتاح له ويتخذ شكله وكذلك يتلونون حسب ما تقتضيه حاجتهم أو “ظروف المرحلة”.

مقالات ذات صلة

قرأنا قبل أيام بيانا من حزب جبهة العمل الإسلامي ، أحد أكبر الأحزاب الأردنية ، يعلن فيه “تعليق” مشاركتهم في انتخابات مجالس البلديات والمحافظات وأمانة عمان المقرر إجراؤها الشهر القادم ، وكان الحزب قد طرح قائمة تضم مرشحيه في وقت سبق إصدار هذا البيان ، وقام المرشحون على أثر قرار التعليق بالإعلان عن سحب ترشحهم باسم الحزب تلبية للقرار ، غير أننا نرى هذه الأيام ترشح بعض المنسحبين من نفس الحزب ولكن بصفتهم الشخصية بدعوى أنهم خُيّروا من قبل حزبهم بين الترشح للانتخابات أو الرضوخ لقرار التعليق ، وهذا أمر عجيب ، الأعجب من ذلك أن الحزب ساق في بيانه أسبابا عديدة لقرار التعليق أحدها أن الجانب الرسمي “التفّ” على مخرجات اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية ومرر التعديلات الدستورية الأخيرة رغم أن الحزب كان مشاركا وممثلا عبر أشخاص داخل اللجنة نفسها ، نفس اللجنة التي اعترض الحزب فيما بعد على معظم مخرجاتها ، المخرجات التي “التفّ” عليها الجانب الرسمي…!!!

من الممكن أن نتفهم ضرورة الاتصاف بالمرونة في اتخاذ بعض القرارات ، بل إنها صفة محمودة في عالم السياسة المليء بالمناورات والدهاليز والصفقات في الغرف المغلقة ، لكن مع شرط أن تترافق المرونة بمتانة وقوة وثبات على المواقف ، لكن ما تابعناه في الفترة الأخيرة من قرارات في المشاركة في الانتخابات وما يرافقها من انتقاد دائم لقانون الانتخاب (الانتخابات النيابية على سبيل المثال) ، والطعن في نتائج تلك الانتخابات بعد إجرائها ، ثم التنصل من القرارات التي تخرجها تلك المجالس المنتخبة أو اللجان المعينة بحجة نسبة التمثيل المنخفضة لا ينضوي إلا تحت حالة من التخبط في اتخاذ القرار وعدم وضوح بين قيادة الحزب نفسه والمنتسبين له أو عدم وضوح بين الحزب وقواعده الشعبية ، وقد تكون الانتخابات النيابية السابقة خير مثال على ذلك ، فبينما كان قرار عموم الناخبين ممن يحق لهم الانتخاب من الشعب مقاطعة الانتخابات كحالة شعبية تظهر موقفا واضحا من الحالة العامة في البلاد كان قرار الحزب المشاركة ، فكان برلمان ال %29 دليلا على انفصال بين موقف الشارع وموقف الحزب.

ربما يبرر البعض أن الحزب تلقى في السنوات الأخيرة ضربات متتالية هزت بنيته الداخلية ، وأن الخسارات المتكررة عبر الانشقاقات التي حدثت وخروج أكثر من حزب وشخصيات وازنة من عباءته جعلته عرضة للابتزاز من كوادره الداخلية بالدرجة الأولى وتركته يغض الطرف عن التصرفات الفردية لمنتسبيه فقط كي يستطيع لملمة وضعه الداخلي وتوحيد صفوفه ، وهذا قد يفسر وجود قرارات متباينة بل ومتناقضة أحيانا ، لكن حتى هذا التفسير لا يبرر عدم الانضباط الذي قد يصل إلى حالة من الانفلات كما رأينا في الأزمة الأخيرة بين الحزب وبين أحد أشهر المعارضين وأكبرهم (في السن على الأقل) ، وملخص هذه الأزمة هو قيام أحد الأشخاص المجهولين بتسريب تسجيل صوتي قصير “لشيخ المعارضين الأردنيين” كما يحلو للبعض تسميته ، انتقد فيه نفسه بشكل شخصي وانتقد أيضا قيادات التيار الذي ينتمي إليه الحزب وطالبهم بالاستقالة ، بعدها قام العديد من الأشخاص المحسوبين على الحزب بنشر كتابات عبر وسائط التواصل الاجتماعي تهاجمه ولكن للأسف تضمن بعضها خروجا عن حدود اللياقة والأدب وهذا بالطبع فاقم الأزمة التي كان من الممكن تداركها لو كان هناك انضباط عند منتسبي الحزب ، وكان الأولى أن يخرج الحزب ببيان يرد به على الانتقادات الموجهة لهم أو اتخاذ قرار بالتزام الصمت وعدم الرد بشكل نهائي.

لكن كل هذا كان استطرادا قد يرى البعض أن لا داعي له ، فقد بدأنا حديثنا عن المطاط ، فكما ذكرنا سابقا ، أن المطاط يتمتع بمرونة عالية ومتانة تؤهله لتلقي الصدمات وأحيانا الركلات ، فكرة القدم التي يلعب بها الجميع مصنوعة من المطاط أيضا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى