الدين : غاية أم وسيلة ؟ / د . هاشم غرايبة

الدين : غاية أم وسيلة ؟
علقت إحدى العلمانيات على مقولة لي بأن ” الإسلام يحترم عقيدة الآخر ولا يتدخل بفرض قناعاته على المخالفين ، فهو متقدم على العلمانية بهذا الشأن ” قائلة أن ذلك غير صحيح لأن الدين لا ينفتح على فكر الآخر .
طبعا جربت كثيرا قبل أن أصل الى القناعة بعدم جدوى النقاش مع من أغلق عقله على مقولات سلفية معلبة قال بها فلاسفة المادية ، وحكموا بها على الدين من غير أن يقرأوا شيئا منه بل قرأوا عنه ما كتبه المعادون له أصلا .
القاعدة التي تقول : الإنسان عدو ما يجهل ، تنطبق على الجاهل علما ومعرفة ، وعلى العالم أو المثقف لكنه جاهل تعصبا ، لذلك فقد حارب الإنسان كل فكرة جديدة مبدئيا إلى أن أتيح له فهمها ، العاقل ينفتح على الجديد بنية رفد معرفته وعلمه ، أما المتعصب فهو يحتمي بقوقعته فينغلق على ما لديه رافضا ادخال جديد .
معارف الدين تختلف عن المعارف الإنسانية التجريبية ، التي تحتمل التغيير والتطوير والإستبدال ، أما الدينية فهي كاملة متكاملة ، لا تتغيربتغير الأزمان والظروف ، لأنها تنتمي الى المعرفة الإلهية المطلقة التي لا خطأ فيها ولا انحراف ، لكن قد يفهمها الإنسان ويجد لها تفسيرا إن استطاعت مداركه ومستوى فهمه إدراكها ، وقد يحار في ذلك إن لم يكن تطور فهمه أو زمان استيعابه قد حان .
من هنا تتأتى مشكلة التطابق في الأفكار بين منتج الفكر الإنساني والمعرفة المنتمية الى الفكر الديني ، فقد يلتقيا وقد يكون لما يحن الوقت لذلك ، وفي تلك الحالة يتوهم الماديون أن ذلك قصور الفكر الديني عن فكرهم ، بينما في الحقيقة أنه العكس ، أي أن الفكرة الإنسانية إما أنها خاطئة وسيأتي يوم تصحح فيه ، أو أن الدينية صحيحة لكن لم يحن الوقت بعد لاستيعابها .
العجيب في عقلية البعض ، أنه لا يؤمن بالمعلومة المتأتية عن طريق الدين ( النقل ) ، ويؤمن بتلك المتأتية عن طريق العقل ، مع أنه يقتنع مثلا بوجود الثقب الأسود رغم أنه لا دليل مادي على وجودها سوى النظرية ، إنه بذلك متناقض لأنه هنا آمن عن طريق النقل وليس العقل .
مثال آخر على تناقضهم : إنهم يدركون أن هنالك قوانين دقيقة صارمة تحكم الطبيعة مثل : الجاذبية – الإحتكاك – التمدد والتقلص – الضغط الجوي …الخ ، ولا يمكن أن ينفلت أي جسم من تلك القوانين أو يخالف أيا منها ، إذن منطق التناظر يفترض أن هنالك قوة مسيطرة ضابطة تمسك بزمام الأمور ولا يفلت من تحكمها أي شيء ، هذه القوة التي هي أحكم وأدق ما يمكن تصوره … هل من المنطق أن عدم قدرة البشر على الإحاطة بها يؤدي الى إنكار وجودها ؟ ، كيف اقتنع إذن بوجود الثقب الأسود مع أنه لا يمكن الإحاطة به ؟ .
نصل هنا إلى أن وجود الله تعالى يخرج من دائرة الشك إلى اليقين وعليه فكل ما يصدر عنه واجب تصديقه ، وما وصلنا منه هو الدين ، والذي يفسر لنا ما عجز الإنسان عن فهمه وهو سر الوجود وعلة خلقه إضافة الى جملة من التعليمات تكفل سعادة الإنسان وتنظيم علاقته بسائر الموجودات .
الآن بإمكاننا البحث عن إجابة للسؤال الأزلي : هل الدين وسيلة أم غاية ؟
بما أن الدين يحتوي على تشريعات تتناول جميع العلاقات الإنسانية البينية من جهة وعلاقة الإنسان مع البيئة المحيطة به ، فهو جاء بهدف وضع ضوابط لتصرفات الإنسان لكي تتحقق المباديء الإنسانية العليا وهي سعادة الفرد والمجتمع ، ووضع حلولا لكل الإشكاليات التعاملية لتضمن العدالة والمساواة وعدم التعدي على حقوق الآخرين ، وأسس كل ذلك على مجموعة من الوصايا الأخلاقية والتي جاءت كمباديء أساسية مشتركة لكل الشرائع الدينية ، ما اختلف بين شريعة وأخرى تفصيلات جانبية تختص بالفترة الزمنية ومدى ما بلغه الإنسان من تطور في تلك الحقبة التي نزلت بها .
لكن ما كان الإنسان ليلتزم بها لولا اقتناعه بأن هنالك قوة قاهرة هي الله ليس بمقدوره الإفلات منها ، لذا ارتكز الدين أولا على التوحيد وهو الإيمان بتفرد الله عزوجل بالألوهية التي تعني السيطرة المطلقة على كل شيء ، وثانيا على الإيمان بالغيبيات التي هي جملة من الأمور التي لا يمكن للبشر ادراكها بحواسهم القاصرة ، وثالثا اليقين بأن التزام الإنسان بالتشريعات المفروضة عليه أوتركها أمر سيحاسب عليه ثوابا أو عقابا .
إذن الإلتزام بالدين هو وسيلة لتحقيق غاية أساسية وهي سعادة الإنسان في الدنيا ، وليس الدين بحد ذاته هو الغاية ، هو نعمة أخرى منحها الله للإنسان ليساعده في التغلب على سلبيات الأنا البشرية ، ولأنه أعلم بطبيعة الإنسان فهو يعلم أنه لا توجد وسيلة لضبط النوازع الأنانية وضبط التجاوزات إلا أن تكون الرقابة ذاتية وأن يتيقن الإنسان أن كل ما يقوم به محسوب عليه وسوف يحاسب عليه ، تماما مثلما يعرف المرء أن شارعا مغطى بكاميرات المراقبة فهو لن يجازف بمخالفة قانون السير ، لكنه ذاته قد يتجاوزها في منطقة غير مراقبة .
لذلك فكل الذين ينكرون دور الدين ، ماهم إلا مكابرون أو جاهلون ، فلا يمكن أن تحقق المناشدات ولا المواعظ المعتمدة على استنهاض الضمير والأخلاق شيئا مقابل القوة الطاغية للمصلحة الأنانية … الدين فقط يمكنه ذلك .

– للإطلاع على المزيد من انتاج الكاتب يرجى الدخول على صفحته على الفيس بوك : صفحة الدكتور

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مجرد أضافه علميه فأن الثقب الأسود مذكر في القرآن ( الجواري الكنس)

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى