هل تصلح العشيرة لبناء الدولة الأردنية؟

هل تصلح العشيرة لبناء الدولة الأردنية؟
د. علي المستريحي

مع تنامي الحس العشائري بالسنوات الأخيرة بالأردن، وذلك لأسباب عدة تحتاج مقال آخر، ومع دخول البلاد نفق معتم في طريق بناء الدولة، بدأ يطرق بالأذهان تساؤل يثير جدلا واسعا ومحتدما أحيانا هو: هل تصلح العشيرة لبناء دولة؟ وهل يمكن أن تكون العشيرة بديلا مناسبا (أو داعما ومعززا) لنظام حكم رشيد ينقل البلاد من حالة الجمود والفوضى إلى حالة النهضة والعبور للمستقبل؟

ومع أن الإجابة الشافية على هذا التساؤل تعتبر مهمة شاقة ومعقدة، بل وأحيانا تثير انتقادا عميقا لشرعية السؤال أصلا في ظل التطلع لدولة حديثة يحكمها القانون والمؤسسات. ومع هذا، أقدم بهذا المقال بعض التصورات التي يمكن أن تساهم في الإجابة على هذا التساؤل بعيدا عن شرعيته وجدليته.

أعتقد أنه علينا بداية أن نؤسس لفهم عميق نقيم فيه ربطا واضحا بين مفهوم وبناء العشيرة وبناء الدولة. فبعد ضياع بوصلة الوطن، وبعد نفاذ البدائل الأخرى أو فشلها الذريع في طريق بناء الدولة، يمكن أن تشكل العشائر بداية معقولة، ولكن هناك قضيتان، أولاها، أن البنية التكوينية للعشيرة بشكلها الحالي، بعد عمليات القص واللصق والتشويه الممنهجة التي تعرضت لها بطرق وأساليب عدة، شوّهت صورتها وتكوينها، لا يصلح لبناء أو اعادة بناء دولة. فإذا قبلنا بفكرة توظيف العشيرة لبناء الدولة، لا بد أولا من اعادتها لأصولها النقية وتخليصها من شوائبها التي ألصقت بها بعد أن صُنعت منها نسخة مزورة مقلدة من خلال تقديم رويبضة القوم كشيوخ يلهثون وراء العطايا والهبات وشراء الذمم. والقضية الثانية، أنه لا يمكن أن تكون العشيرة هي بحد ذاتها الهدف النهائي لبناء الدولة، بل يمكن أن تكون غاية أو خطوة في الطريق للوصول لبناء دولة حديثة تستوعب كل مكوناتها. وفي هذه تظهر مشكلتان وهناك حل أيضا. المشكلة الأولى، أن العشائر تعمل بجزر منفصلة، ففكرة العشيرة بحد ذاتها غالبا ما تقبل الجمع داخلها ولا تقبل الجمع خارجها! وهناك تنافس بين العشائر يصل أحيانا حد التنافر والصراع على المكتسبات (قديما على المراعي). والحل يكون، (وبعد أن يتم اعادة بناء العشيرة وتنقيتها من شوائبها)، أن يتم تهيئتها وتوليفها وتعميق ادراكها بضرورة قبول كل مكونات المجتمع لبناء دولة مؤسسات. المشكلة الأخرى، هي التنافر المعتاد والمتوقع بين طبقة المتعلمين وشيوخ عشائرهم. وليس أدل على هذه المشكلة أن فئة المتعلمين الأكفّاء بالعشائر بنسختها الحالية هي فئة عادة ليست مرحب بها، وهم أنفسهم ضائعون بين الالتزام بقيم العشيرة ومنظومة قيمهم الخاصة! لا بأس، فعند بناء عشيرة حقيقية، يكون الشيوخ الحقيقيون بطبيعة الحال أقرب لقبول واحترام تلك الفئة، بل وأكثر من ذلك، استقطابهم واحتوائهم وتقريبهم والقبول بمبدأ توزيع الأدوار بينهما بما يرضي الطرفان ويعزز من مركز قوة للعشيرة، وبنفس الوقت، تكون تلك الفئة هي جسر الوصل بين العشيرة وغيرها من مكونات المجتمع بالمجموع الكلي في سبيل بناء دولة، وهو ما أسميه بـ “العشيرة التكنوقراطية”.

مقالات ذات صلة

حريٌّ بهذا الطرح أن نتأملّه، خاصة مع يأسنا من إمكانية بناء الدولة بالمنهجيات الفكرية الحديثة، مع تحذيرنا أن تكون العشيرة هي الهدف أو نهاية الطريق. فبالرغم مما يعترض فكرة استخدام العشيرة لبناء الدولة من جدلية مبررة أحيانا، إلا أن العشائر بنسختها الأصلية هي نظام اجتماعي محكم، لها منظومتها القيمية والأخلاقية ولديها نظم رصينة للثواب وللعقاب. فشيخ العشيرة الحقيقية مثلا لا يحابي ولده حال تعديه على غيره، بل يقيم عليه الحد أولا قبل غيره. شيوخ العشائر الحقيقيون لا يقبلون شراء ذمتهم، فذلك عيب وخزي وعار. شيوخ العشائر الحقيقيون لا يجاملون صاحب السلطة ويقولون كلمة الحق ولو قطعت رؤوسهم. شيوخ العشائر الحقيقيون يستوعبون الآخر ويكرمون الضيف ويحمون الدخيل ويقدمونه على أنفسهم وأهليهم.

بالمختصر، يمكن أن تكون العشيرة “سبيلا” وجسرا لنموذج حكم رشيد، ولكن ضمن خارطة طريق واضحة المعالم كما عرضه هذا المقال، تنتهي ببناء دولة القانون والمؤسسات.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى