ازدواجية المعايير

#ازدواجية_المعايير
بقلم : د. #هاشم_غرايبه
من المتفق عليه أنه لا يمكن تحقيق العدالة في الأحكام، ولا النزاهة في التقييم، إلا ان كانت هنالك مرجعية ثابتة ومستقرة، يرجع الحكم إليها، او يقاس بناء عليها.
لذلك رأينا المجتمعات ومنذ القدم، تنحو نحو إرساء معايير ثابتة اجتهد في وضعها فقهاء تشريعيون، وظلت طوال العصور في تطوير وتحديث، كلما لوحظ قصورها عن تلبية متغيرات العلاقات وتناقضاتها.
لكن العيب الأكبر فيها لم يكن في أوجه القصور والتخلف عن مواكبة المتغيرات، بقدر ما كان في إمكانية القفز عنها أو تطويعها وفق الهوى من قبل ذوي النفوذ والسلطة، إن تعارضت مع مصلحتهم.
من هنا نشأ مفهوم المعايير المزدوجة، أي تتبع التشريعات إن حققت المصلحة ولم تلحق الضرر بالطرف المهيمن، وتهمل أو يعدل المفهوم إن خالفت ذلك.
وبالطبع عندما يكون الحَكَم في تقدير الأمر هو ذاته الخصيم للمبدأ، فلا يمكن أن يكون الحُكمُ صحيحا، وعليه فيجب أن يكون من خارج ذوي الإربة، أي ليس بشريا، لذلك أنزل الله تشريعاته، لتشكل مرجعية ثابتة لكل البشر ولجميع الظرف والأزمان.
لكن الإنسان في غالب الأحيان لم يتبعها، ومنذ الكائنات البشرية الأولى (ابني آدم)، حدث الانحراف عنها، فعندما قدم الأخوان (قابيل وهابيل) قربانا الى الله، طلبا لنيل رضاه، أراد الله أن يعلمهما بالمرجعية الموحدة لقبوله إياها، وهي التقوى، فما تقبل القربان إلا من المتقي مهما، ولم يتقبل من الآخر، والذي رفض الحكم، بل وهدد أخاه بالقتل إن لم يقبل التخلي عن تلك المرجعية، ثم نفذ تهديده لما أصر المتقي على ضرورة الانصياع لها.
هكذا بدأ الظلم الأول عند البشر، وتواصل الأمر في تزايد الى يومنا هذا، وظل الصراع قائما حتى داخل النفس البشرية، بين الانصياع الى متطلبات العدالة الفطرية التي فطرت عليها النفوس أصلا (الضمير النقي)، وبين النوازع والرغبات والأطماع (متطلبات الأنانية).
وتوسع ذلك ليشمل المجتمعات، فأصبح الصراع فيما بين الأفراد فيها بين متطلبات العدالة المجتمعية والمساواة في نيل الحقوق وأداء الواجبات بين الأفراد في المجتمع الواحد، وعلى مستوى أوسع بين المجتمعات البشرية المتنافسة على موارد الطبيعة.
فنشأت النزاعات والصراعات بينها ونشأت الحروب، والتي جعلت الاحتكام الى منطق القوة والغلبة في فرض حل النزاع، بديلا للاحتكام الى مرجعية الحق والمنطق التي يحقها التشريع الإلهي العادل.
ولما كان منطق أن الحق مع الأقوى يجافي الفطرة، وليس مقنعا للعقل، ومتغير ظرفيا، فقد أراد متبعوه أن يرسخوه منهجا بديلا للشريعة، جعلوا له إطارا فكريا لتمريره على العقول، فجاءوا بفكرة العلمانية، المنبنية على استبعاد التشريع الإلهي، ووجدوا تبريرا له في الحالة الأوروبية التي كانت قائمة في القرون الوسطى، وهي احتكار تمثيل المؤسسة الكنسية للدين، والتي هي في حقيقتها لم تكن إلا ركنا واحدا من المؤسسات المجتمعية الثلاث التي تمثل الظلم الفاقع، وقام عليها النظام السياسي الأوروبي (المؤسستان الأخريان هما العائلة المالكة والاقطاع)، والشعوب كانت عبيدا وأقنان وأجراء، ليس لها أية ملكية للأرض.
عندما ظهرت فكرة العلمانية، كانت تحت شعار تحييد رجال الكنيسة وليس الدين، بالغاء امتيازاتهم ودورهم التشريعي، رحبت بها الطبقتان المنافستان، فيما قبلت بها الشعوب كونها لا تعرف من الدين إلا ما تقوله الكنيسة، التي لا يرون فيها حَكَما ينصفهم، بل شريك للطبقتين الظالمتين.
بالمقابل وضع منظرو العلمانية مبادئ نظرية مشتقة من التشريعات الإلهية، لذلك كانت منطقية ومقنعة، غير أن حقيقتها في ظاهرها العدالة، لكن باطنها ليس فيها المساواة، بسبب أن تفسير وتطبيق هذه المبادئ يحتكره الأقوياء، فيطبقونها حسب الهوى والمصلحة.
لذلك فالنظام العالمي العلماني هو ما رسخ ازدواجية المعاير، وأصبح نهجا مجازا رغم عدم احترامه العقل ولا المنطق، وانعكاس ذلك على الانتقائية في تطبيق معايير الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
نستخلص مما سبق أن الدعاة الى تحييد شرع الله في ديار الإسلام واتباع العلمانية بديلا، إنما هم أنصار للظلم ومناوئون للعدل ودعاة الى الباطل.
ولا حجة لهؤلاء بالتطبيقات الشكلية من قبل بعض الأنظمة أنها تمثل تشريعات الدين، فلا نظام إسلامي في العالم اليوم، ليس عن عجز وقصور في تشريعات الدين، بل بالقهر والحظر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى