يا خسااارة … / منصور ضيف الله

يا خسااارة …

تعرضت في حياتي إلى خسارات كثيرة ، وفي كل خسارة كنت أرثو الفتق ، وألملم الدمع ، وأمسح ما تبقى من نثار قان غال . لم أكن لأقف عند محطة طويلا ، فلا بد للإيام أن تأخذ حصتها ، وللحياة أن تمضي … وفي كل مرة كنت أخادع النفس ، وأستحثها ، وأوشحها بثوب من أمان قادمة ، وعمر زاه آت .
خسارتان شكلتا وتشكلان جرحا نازفا غائرا ، جاءا في عمق الخاصرة على حين فجأة ، طعنتان بيد نجلاء ، وسهمان أريشيان هزا كياني ، وما كنت أحسب أن الأمر بهذه القسوة ، وتلك الفظاظة . الخسارة الأولى حدثت في أواخر عام 97 عندما سحبت قيدي من الجامعة الأردنية ، كنت للتو أنهيت المواد كاملة ، بتقدير يلامس حدود الامتياز . مشروع الرسالة جاهز ، هيكل الرسالة ؛ المنهج ، والفصول ، والمراجع ، والبنية الأساسية للأفكار والدراسة . وللأمانة التاريخية لم يبخل مشرفي المرحوم الأستاذ هاشم ياغي بدعم أو توجيه ، يقتطع الكثير من وقته في سبيل الطالب البدوي النحيف الأسمر . أنجزت الفصل الأول كاملا ، رغم صعوبة الموضوع ، ودقة المنهج وخطورته .

لسبب لست أدريه ولم أعرف كنهه تناوبتي حالات من اليأس وفقدان الأمل . كنت وحيدا فقيرا أذرع ممرات جامعة الأغنياء والنخبة . حالات عطلت قدرتي على التفكير ، وبثت أشكالا من فوضى واستسلام . لم يسرقني الوقت ، ولم تفت في عضدي قضية شعرية جاهلية ، فأنا ابن بيئة بدوية خالصة ، قادر على تصور المواقف والمشاهد ، واستخلاص روحها ، ثم إعادة تسجيلها باقتدار وإبداع . الغربة ، والدهشة ، والتباين الطبقي شكلت مفاصل تلك المرحلة .

ذات مساء شتوي قارص اتخذت القرار : سأسحب قيدي من الجامعة . لم يشاركني به أحد ، ناهيك عن العلم به . في دائرة التسجيل كانت الصدمة ، ليس من طرف الساذج الطيب التائه ، ولكن من طرف مسجل الدراسات العليا ، لست أذكره الآن ، ولكن أذكر بعض اسمه : شمس . رفض الموافقة ، وأبدى امتعاضه ، ولامس كلامه حد التقريع ، الأزيد أنه ألقى بقلمه بعيدا ، إلى حواف السقف ، وداسه بقدمه ، حتى غدا كسرا يتناثر حبره على السطح الأملس . سحبت قيدي ، ومضت الجامعة الأردنية حلما يشق الخاطر ، وأمنية همدت تحت أقدام الفقر والجهل والنزق . الجامعة الأردنية آنذاك ، ودكاترها الأجاويد ، ورفاق الندوات المسائية ، وظلال أشجار الصنوبر والسرو ، وبقايا عطر الفاتنات في تلك المرحلة ، ما زالت جرحا مؤلما ، وستبقى .

مقالات ذات صلة

أما الخسارة الثانية ، لست قادرا ….. الخسارة الثانية صدمة حقيقة ، وشيء ليس بوسعي تخيله أو تصوره ، فهل يعقل أن تصل الأمور إلى هذا الحد !! ماذا يتبقى للإنسان إن كسب كل العالم وخسر نفسه ، ماذا يتبقى له إن خسر آخر رهاناته بلا ثمن …. الخسارة الثانية موجعة مؤلمة ومؤذية … تتركني بلا مجداف في عمق المحيط . لن أزيد شيئا الآن ، فلا بد من بوح ولو بعد حين …..
خسارتان وبدوي وحيد
خسارتان وهدير الدم
يا خسااارة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى