وكانوا يضربوني

وكانوا يضربوني

د. جودت سرسك


استوِ يا سوادُ بن غَزيّة، أوجعتَني يا رسولَ الله، وإنّ الله قد بعثك بالحق، وأريد منك قصاصاً.
فكشف له رسول الله عن بطنِه ليأخذ حقّه ويقتص، وقال له: اقتص يا سواد. إنّ عودَ السِواك الذي أرجَع به نبيّ الله سوادَ إلى الصفِّ، لم يُؤلم سيدَنا سوادَ ولكنه أراد أنْ يحُطّ بنوارس عشقِه على شواطيء رسول الله فيلمسُ جلدُه جلدَ النبي الطاهر الشريف ويعانقه قبل الذهاب للمعركة.
اختطفوك شاباً وقد بدأت شعراتُ لحيتِك بالظهور وبدأت يدُك ترسم تضاريس فلسطين حجَراً حجَراً ورحتَ تعزفُ رائحة البرتقال وطعم الزيتون وتهيم بزغاريد أمّك وتلاويح الحاج أبو منصور بمسبحته يؤدي الدبكة الفلسطينية يوم نجاحك بالتوجيهي.
حين اقتادوك عنوة بتهمة الدفاع عن وطن النبوّات والشهداء كانت أمُّك تخبز الخبزَ على تنّور الطين الذي صنعتْه بيديها وجمَعتْ حجارتَه وحطبَه من وجَع مفاصِلها وكبريائِها الذي رسمتْه على جبينك العالي، سالت دمعتُها حين ودعتك وعلِمتْ بغيابك فأقعدها الوجع واحترق الخبز واحترقت طرحتُها المطرزة.
كانوا يمنعون عنك الطعام والضوء والحياة، يضربون وجعك ويبطحون جسدَك النحيل ببساطيرهم، يصفعون خديك التي لامستْ كفّ أمِك الشامخة ولا تلين لهم إلا كما تلين النخلة للريح العاتية. تجلس وحيداً في عتمتِهم وترتجف كطفلٍ يخشى الغول من بين فتحات شباك زنازينهم ولا أبَ يحنو عليه ولا دعواتِ أمٍّ يسمعها توشِّح مسامعَه.
يريدونك أن تبوء بإثم فلسطين وتعلنَ هزيمتك ونصرَهم، يريدونك أنْ توقِّع على صكّ التسليم، وصفقة قرنِهم وعارِ الأعراب.
يا لِعارنا يا منصور الكرامة حين كانوا يضربونك وحدك ونجتمع بهم ونجثو على عتباتهم ليطعمونا مِن جوع ويسقوننا مِن عطَش.
اقتصَّ يا منصور منّا فقد ضحيتَ بشبابِك وعمرك المسفوك، وضحّينا بك حرّاً وأسيراً وطليقا.
مَن لك يا منصور بعد أن خذلناك وكشفنا الغطاء عن سِترك، ونزفْنا جرحَك العاري، اقتصَّ من وجوهنا في كل صفعة على وجهك، اقتص من أعرابِنا الذين رفعوا أعلامَهم على أبراجنا ووقعوا صكّ أُخوّتِهم.
يا سوادَ نبيِّه يا منصور، ألقِ بأوجاعِك ورأسَك المنحني ووجنتيك المتلاصقتين جوعاً وحرماناً في سجونهم على صدر نبيّك وبُح له بخيانتنا وأبلغه أننا نبارك وجَعَك وننسّق له ونقتفي أثرَك مع جندِهم الباغي وغلمانِهم ومستعربيهم.
فداك قلبي وكلماتي وخلجاتي، يا كرامة محمّد وموسى، مثلك لن يستسلم للموت وسيبقى حيّاً حتى يقتص من معذبيه وضاربيه.
افقأ عينيهم وارفض الموت في زنازينهم واتبع نبي الله موسى حين فقأ عين ملَكِ الموتِ لمّا أراد أن يقبض روحه قبل أنْ يقتصَّ من بني إسرائيل الذين مكروا بالله وغلّوه وغلّلوه وهو خير الماكرين.
ضُرِب منصور في زنازينهم، وأطفأوا شموعه السبع عشرة حين أشعل كهلُنا شموعه الثمانين على أنغام عومير أدام، وفاعل الجرمِ موصوف وشاهد السجن معروف وعاقد العهد خِفيةً بالعبرية عن أحرفِ عزِّنا مصروف.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى