الإنسانية حين تدمّر ذاتها / أيمن يوسف أبولبن

الإنسانية حين تدمّر ذاتها
من حُسن المصادفة أن تترافق مشاهدتي لفيلم «أم» للكاتب والمخرج الأمريكي «دارين أرونوفسكي»، مع قراءتي لكتاب الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع «أيريك فروم» «الإنسان بين الجوهر والمظهر». ورغم الفارق الزمني بين العَمَلين، واختلاف أرضية الأفكار والرؤية، إلا إنني وبشكل ما، وجدت أن جوهر العَمَلين هو واحد، فكلٌ منهما يحاول إرسال رسالة قوية لبني البشر: عليكم أن تقوموا بتغييرات جذرية في كيفية تعاملكم مع الطبيعة والبيئة وباقي إخوانكم في الإنسانية، عليكم نبذ عقيدة التملّك والاستهلاك وتدمير الآخرين، والعودة إلى المبادئ الإنسانية الأساسية (المشاركة والتفاعل والايجابية) التي قامت عليها كل الحضارات الإنسانية والحركات الفلسفية والأديان، فهي ما يجلب السعادة الحقيقية، كونها ثمرة النشاط الإنساني الفعّال، بينما الكآبة هي ثمرة من يتشبث بالمقتنيات وبغريزة التملّك والاستهلاك.

يقول الله تع إلى : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)).

عنوان الفيلم المذكور يرمز إلى «الطبيعة»، ويلقي الضوء على هذه العلاقة الشائكة بين الأم وأبنائها منذ خلق آدم إلى عصرنا الحاضر، من خلال قصة رمزية تتوالى فيها المشاهد التي تختزل تاريخ البشرية وجرائم البشر في حق الطبيعة والبيئة، وفي حق بعضهم البعض، بل وادعاء كل فئة منهم تجسيد إرادة الله في الأرض.
يمكننا القول إن الصراع البشري على حق التملّك وادعاء القرب إلى الله قد بدأ منذ خلق البشرية، حيث تجلّى في قصة هابيل وقابيل، ومنذ تلك اللحظة إلى يومنا هذا استمر الصراع بين مجتمع محوره جوهر الإنسان والقيم الإنسانية، ومجتمع آخر محوره الممتلكات والنَهَمْ الاستهلاكي. يؤمن المجتمع الأخير بأن قيمة الفرد تتعاظم بمقدار ما يقتنيه ويمتلكه وبهذا تكون حلبة المنافسة على أشدّها بين جميع أفراده.
بينما يؤمن الأول أن تحقيق الرغبات الإنسانية في حدود، والعمل على تحقيق الاحتياجات الاجتماعية، والقيم الإنسانية العليا، يؤدي في النهاية إلى السعادة المأمولة، وإلى تحقيق حياة راقية ذات جودة.
من المؤسف ملاحظة أن البشرية بمعظمها الآن قد تحوّلت إلى مجتمعات استهلاكية، تطغى عليها لذّة التملّك المادي، بحيث انحصرت أهداف أفرادها، في الحصول على وظيفة تدر دخلاً ضخماً، وشراء منزل فاخر، وسيارة فارهة. (يعلّق إيريك فروم على هذا بالقول إننا ودون أن نشعر نعبّر عن عقيدة التملّك لدينا بالقول «لدي» زوجة وأطفال!) وفي الجهة المقابلة، خفتت عقيدة المشاركة والعطاء، التي تؤمن بالتكافل الاجتماعي والقيام بالأعمال التطوعية الخيرية، والسعي من أجل المحافظة على البيئة والموارد الطبيعية.
وبالعودة إلى الفيلم، لفت نظري مشهدين مؤثرين، أولهما مشهد تخريب الضيوف منزل بطلة الفيلم (التي ترمز إلى الطبيعة)، وتصرفهم بأغراضه ومقتنياته كأنها حقٌ صرفٌ لهم، متناسين أنهم في النهاية «ضيوف» وأن تواجدهم هو من باب الكرم والجود، في إشارة إلى كيفية تعامل البشر مع موارد الطبيعة، على أنها مكسب وحقٌ خاص، وهذا ينسحب على تصرفاتنا جميعاً اليوم، سواء كحكومات رسمية، أو مؤسسات عامة أو حتى بصفتنا أفراداً.
وثاني المشاهد، هو مشهد الحروب المتتالية التي تدور رحاها بين البشر، حيث نقتل بعضنا بعضاً، ونُمعن في الخراب والتدمير، وفي داخل كل واحد فينا، شعور متوهج بأنه يمثل الحق والحقيقة، وأنه في فعلته تلك يُرضي الله ويستحق على هذا الثناء والتمجيد، متناسين أن الله لم يخلقنا كي نقتل بعضنا أو نتعارك ونتخالف، بل خلقنا كي ننعم بالسلام والطمأنينة ونتعاون ونتكافل فيما بيننا، ونتشارك في نعمه وهباته، بعيداً عن العنصرية والطائفية بكل أشكالها.
للأسف، باتت أفكار المشاركة والتفاعل والتعاون، أفكاراً ساذجة في عصرنا هذا، فالدول القوية تريد أن تستأثر بالمصادر الطبيعية والموارد دون غيرها، وتخوض الحروب كي تستطيع تأمين الوصول إلى هذه الموارد واستغلالها، وتعتمد في صناعتها ورقيّ مجتمعاتها على الإضرار بالبيئة والمُناخ دون حسيب أو رقيب، بل إنها تقوم بتطوير أسلحة الدمار الشامل التي تهدد البشرية جمعاء، فيما تعجز الدول الفقيرة عن استغلال مواردها الطبيعية، وتظل رهينة الاستغلال السياسي والنهب الاقتصادي. وفي داخل كل دولة معاصرة، تقوم الطبقة الغنية باستغلال الطبقات الدنيا لضمان حصولها على المادة والثروة، كي تشبع نهمها ورغباتها الدفينة في التملّك والاقتناء، فيما تُحرم الطبقات العاملة من حقوقها الأساسية.
وينطبق الأمر على رجال الدين، فكل متعصب، يعتقد أن رسالة الله التي يؤمن بها هي ملك لطائفة من الناس، وأن الله قد حباهم بميزة التفضيل عن غيرهم، وبالتالي فإن من حقهم أن يتعاملوا معها كأداة قابلة للتملّك، كي يحققوا هدفهم في نيل رضا الله، بينما يتجاهلون ويتناسون أن الرسالة السماوية في أساسها تقوم على المشاركة والتفاعل مع الإنسانية جمعاء، وحسن الخلق في المجتمعات، والإحسان إلى الحيوان والنبات والطبيعة. ونتيجةً لسوء الفهم المتوارث هذا، يتحوّل الدين في النهاية إلى مادة استهلاكية، ومجرد مقتنيات نقتنيها ونعلّقها على جدران منازلنا أو نضعها ميدالية في يدنا أو وساماً نزين به ملابسنا، ثم لا نلبث أن نتنازع على هذه «الهوية» فنقتل بعضنا بعضاً، كي ننال نصيبنا من جنان النعيم، ونرسل «عدونا» إلى الجحيم!
أما طبقة المثقفين والمفكرين، فقد أصبحت حواراتها تتمحور حول إثبات صحة أفكارها، وليس بهدف الوصول إلى الحقيقة أو بنيّة خدمة الإنسانية والمجتمعات أو القضايا الإنسانية العامة، فكلّما أثبت هذا الفرد أو ذاك أن آراءه صحيحة زادت قيمة ما يملك من أفكار، وبالتالي زادت قيمته هو!
وما لبثت هذه الأفكار أن أصبحت خالية من كل القيم، ولا تحمل من مضمونها سوى الاسم والكلمات التي نرددها دون وعي أو منطق أو اقتناع حقيقي. عندما تصبح قيمة الإنسان مرتبطة بما يقتنيه وما يملكه وليس بأخلاقه وأفكاره، والقضايا الإنسانية التي يتبناها ويؤمن بها ويعمل من أجلها، فإننا نكرّس بوعي أو دون وعي هذا الخلل بين جوهر الإنسان ومظهره، وهذا بدوره يؤدي إلى تعاظم مستويات القلق والخوف في مجتمعاتنا والشعور بعدم الأمن والأمان، لأن شخصياتنا قد تحولت في النهاية إلى مجرّد أشياء، عرضةً للضياع والخسران!

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى