قصّة أمّي وأخي آخر العنقود والأقراط الذهبية

قصّة أمّي وأخي #آخر_العنقود و #الأقراط_الذهبية

#ماجد_دودين

قصة حقيقية واقعية كنت شاهد عيانٍ على أحداثها وذكريات لا تُنْسى في مرحلة الطفولة والشباب من عنجرة وعجلون حيث ينابيع الجَمال إلى إربد عروس الشمال.

كنّا أسرة كبيرة مكونة من (١١) أخاً وأختاً والوالد والوالدة (رحمهما الله تعالى) …

مقالات ذات صلة

كنّا في ذلك الوقت قبل ما يقرب من خمسة وأربعين عاما نسكن بيتًا صغيراً مستأجراً في قرية صغيرة جميلة هادئة رائعة وادعة اسمها “عنجرة” بالقرب من مدينة عجلون في شمال الوطن الحب الذي يسكن شغاف القلب، المملكة الأردنية الهاشمية الحبيبة …

كانت الحياة بسيطة سعيدة …لكنها في ذات الوقت كانت قاسية صعبة… فيها تحدّيات كثيرة…

“عنجرة” قريةٌ الحبّ والطيبة فيها عنوان… والكرم يزيّن جبين كل إنسان…

دخل الأُسْرَةِ كان محدوداً جداً …عبارة عن راتب والدي الشهري الذي لا يزيد عن سبعين ديناراً هي معاش الممرض ضابط الصف في الخدمات الطيبة الملكية في القوات المسلحة الأردنية… الدخل الذي لا يكفي متطلبات الحياة أكثر من عشرة أيام لأسرة كبيرة.

بعد تبخّر الراتب المحدود كنّا نستدين متطلبات واحتياجات الأسرة من البقالة والقصاب والمخبز …الخ ثم ننتظر آخر الشهر على أحرّ من الجمر فيستلم الوالد (رحمه الله) الراتب ويسلّمه إلى أخي الأكبر ” أبو نور” الذي كان يعمل بمثابة وزير ماليّة الأسرة ليوزّعه على الدائنين لنبدأ رحلة شهر جديد من الشكر والصبر والانتظار.

كانت أمّي قد وهبها الوهاب جلّ وعلا وتقدّس أخي الحبيب (أمين) آخر العنقود … المولود الحادي عشر … وكان طفلاَ جميلاً جذّاباً ولا يزال الرجل الأنيق والوسيم حفظكم وحفظه الله …وفي تلك الفترة في مرحلة الطفولة تعرّض أمين لوعكة صحيّة وارتفاع مفاجئ في درجة الحرارة …كان لا بدّ من زيارة طبيب الأطفال المختص على عجلٍ …ولكن لم يكن آنذاك طبيب مختص لا في “عنجرة” ولا في “عجلون” حيث الأجواء الصحية والنسمات العليلة والغابات الخضراء الكثيفة وأشجار التين والزيتون والأغذية العضوية الصحيّة التي تصنع في المنازل من خيرات الأرض وأنعامها …وكانت حالات المرض نادرة بفضل الله تعالى.

كان لا بدّ من السفر إلى مدينة اربد – تحديداً إلى شارع السينما أشهر شوارعها القديمة والذي اشتهر بهذا الاسم نسبة إلى سينما الزهراء، وهي أول سينما أقيمت في مدينة اربد عام 1942.

كان لا بدّ من زيارة عيادة الطبيب المختص …ولم يكن هناك وسائل ميسورة للسفر من عنجرة إلى عجلون التي وصلناها بشق النفس ثم سافرنا من عجلون إلى اربد…لم يكن مع أمي – رحمها الله- أيّ نقود سوى أجرة الركوب من عجلون إلى اربد…والسؤال الكبير: من أين سنحصل على النقود لدفع “كشفيّة” الدخول على الطبيب وثمن العلاج؟

كان الحل الوحيد أن تخلع أمي من أذنيْها قرطها الذهبي (حلق الذهب). القطعتان الخفيفتان الوحيدتان الباقيتان من مصاغها الذهبي البسيط الذي باعته قطعة تلو قطعة عبر السنوات لتساعد والدي رحمه الله على مواجهة مصاعب الحياة ومتطلباتها.

وصلنا إلى مدينة إربد ودخلنا محل الصائغ الذي وضع القرط الذهبي الخفيف ” الحلق” في ميزان الذهب وقال: سأشتريه منكم بسبعة دنانير … لا مجال ولا وقت للمساومة…فالوقت من ذهب وكلّ ثانية لها قيمة فالحالة طارئة … وشفاء أخي الرضيع أثمن عند والدتي من ملء الأرض ذهبا…تسلّمنا الكنز (الدنانير السبعة) وذهبنا على الفور إلى عيادة طبيب الأطفال الذي أجرى الفحوصات اللازمة ووصف العلاج واشتريناه من الصيدلية وعدنا أدراجنا نحو موقف السيارات لنرجع إلى البيت الذي لا تستطيع الأم الغياب عنه طويلاً. عادت أمي فرحة مسرورة كأنْ لم تفقد شيء …عادت يحدوها الأمل أن يتعافى ” أمين” بفضل ربّ العالمين ويقينها أنها أخذت بالأسباب وتوكلت على خالق الأسباب سبحانه… {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِيْنِ} …بحمد الله تماثل أمين للشفاء وهو بحمد الله بخير ومرّت الأعوام وكبر ودرس تخصص برمجة الحاسوب ثم توظّف وأصبح مبرمجاً مرموقاً ومبدعاً عمل في أكبر شركات البرمجة في دولة الإمارات وتزوّج وانتقل للإقامة والعمل مبرمجاً للحاسوب في شركات مرموقة في المملكة العربية السعوديّة.

كنت في تلك الحادثة أحمل أخي الرضيع بين ذراعيّ بصعوبة فقد كنت نحيل الجسد هزيل البنية … وأثناء سيرنا نحو الصائغ لبيع القرط الذهبي كانت تجلس امرأة فقيرة تسأل الناس الصدقة …ولم يكن معنا ما نعطيها … فقلت لها مازحاً: ما رأيك أن أعطيك هذا الطفل الرضيع؟! ووضعته في حجرها وتابعت السير بضع خطوات …فقالت أرجوك خذه …اعتذرت منها أننا لا نملك ما نتصدّق به عليها … ضحكنا جميعا (أمي والمرأة وأنا) وحملت أخي من جديد وتابعنا سيرنا.

هذه القصة القصيرة تحمل في ثناياها المعاني الجليلة عن تضحيات الآباء والأمهات وعلى وجه الخصوص تضحيات الأمهات اللواتي ضربن أروع الأمثلة في الصبر والتضحية والعطاء بلا حدود والحنان وكل المعاني الإنسانية التي لا تستطيع الكلمات أن تعبّر عنها … ومهما فعل الأبناء والبنات من سبل البرّ والإحسان …ومهما قدّموا لوالديهم لن يستطيعوا أن يوفوا الديْن الذي في أعناقهم نحو والديهم …

بر الوالدين من أهم المهمات، وأعظم القربات، وأجلِّ الطاعات، وأوجب الواجبات، وعقوقهما من أكبر الكبائر، وأقبح الجرائم، وأبشع المهلكات؛ للأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة.

قرن الله حق الوالدين والإحسان إليهما بعبادته سبحانه وتعالى، كما قرن شكرهما بشكره؛ لأنه الخالق وحده، وقد جعل الوالدين السبب الظاهر في وجود الولد، وهذا يدل على شدة تأكد حقهما والإحسان إليهما: قولاً وفعلاً؛ لأن لهما من المحبة للولد والإحسان إليه في حال صغره وضعفه ما يقتضي تأكد الحق ووجوب البر، وتحريم أدنى مراتب الأذى: وهو التضجر أو التأفف من خدمتهما.

عن أبي بردة أنه شَهِدَ ابنَ عُمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما ورجُلٌ يَمانيٌّ يطوفُ البَيتَ حمَلَ أُمَّهُ وراءَ ظَهْرِهِ يقولُ: إنِّي لها بَعيرُها المُذَلَّل، إنْ ذَعِرَتْ رِكابُها لم أَذْعَر، ثمَّ قال: يا بنَ عُمرَ، أَتُراني جَزَيْتُها؟ قال: لا، ولا بزَفْرَةٍ واحدةٍ” الأدب المفرد للبخاري، وقال الألباني في صحيح الأدب المفرد (صحيح الإسناد).

الولادة هي ثاني أقسى ألم في العالم …تأتي مباشره بعد الحرق …ومعدل الألم الطبيعي الذي يستطيع أن يتحمله الانسان (45) وحدة ألم، بينما المرأة عند الولادة تتحمل (57) وحدةَ ألم…وهذا الألم يشبههَ أو يساوي ألم كسر 20 عظمة…رب عظّم أجر أمي وكل أمّ …كم تحملت من أجلي وأجل إخوتي وأخواتي.

أنا على يقين أنّ كل واحد منكم قد عاش بنفسه أحداث عدد من القصص عن تضحيات الآباء والأمّهات وصبرهم وعطائهم بلا حدود لفلذات الأكباد وثمرات الفؤاد.

اللهم اغفر لجسدٍ حمل كلّ واحد منا تسعة أشهر، فرقّت عظامه، وتشقق جلده، فحرمناه الراحة والنوم، وامتصصنا من عافيته ما يكفي لإمراضه، ثم خرجنا منه بشق الأنفس، ربّ اغفر لوالدتي ووالدي … رب ارحمهما كما ربيانا صغارا …اللهم اجعل أمي وكلّ أم تقيّة نقيّة مؤمنة من أهل الفردوس الأعلى من الجنّة…اللهم اجعلنا ووالدينا وكل المسلمين والمسلمات من أهل الجنة.

لمزيد من المعلومات حول بر الوالدين مرفق- رابط كتاب بر الوالدينْ–سعيد القحطاني  https://shamela.ws/book/96480

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى