جداريات من زمن القلم / وائل مكاحلة

جداريات من زمن القلم
عاني كلنا من جنون الشئ، نشعر أن ثمة ما ينبغي لنا أن نعيش لأجله، يحتل ساعات فراغنا.. أو حتى أوقات إلتزامنا إذا كانت ضمائرنا من النوع المرن “flexible”، بعضنا جنونه الموسيقى وبعضنا الشعر، بعضنا الرسم وبعضنا مولع بكرة القدم، أعرف نساءا تهوين تفلية شعور أولادهن من القمل.. ذلك جنون آخر لا بأس به كما ترى…!!

منذ صغري أعاني من الجنون بلغتي الأم.. اللغة العربية، أذكر أنني لم أُضرب في المدرسة إلا لسببين: تأخيري عن الطابور الصباحي.. وتصحيح معلومات أستاذ اللغة العربية وإثبات أنه حمار آخر أمام التلاميذ…!!

التأخير عن الطابور كان سببه الأبرز “دريد” ابن خالتي، هذا الوغد العزيز الذي كان يهوى السير المتقطع والعراك الصباحي ومعاكسة صبايا المدرسة المجاورة لمدرستنا، كنا رفاقا.. لذا وجب علي أن أكون معه على الحلوة والمرة، أحاول كثيرا أن أنسى.. لكن اللكمات التي خبرتها جراء مرافقته كثيرا ما تخز ذاكرتي فتستفيق مستعرضةً تلك الذكريات المؤلمة…!!

مدرّس اللغة العربية بالذات كنت أجده أمام احتمالين بلا ثالث، فإما أن يكسبني لصفه فيجد مني “نيردا” يشرّفه أمام زيارات موجهي الوزارة ويمده بكل تعاون ممكن، وإما أن يخلق مني عدوا له يحاربه في رزقه ولا يبالي كثيرا بأعمال السنة، منهم من لا زلت أذكره بالخير حتى الآن، ومنهم من أفضّل أن أواري سوءة أفعالي معه في غياهب الذاكرة، في سننا الصغير تكون المكابرة سببا في مواجهات لا ضرورة لها، وحين نكبر نتعلم متى تكون المواجهات خيارا خاطئا..

في صغري أحببت اللغة العربية لدرجة الجنون، كنت أتسلى بتقطيع الجمل وإعراب أبيات الشعر، نسيت الكثير من هذا الآن.. علم النحو بلا ممارسة يغدو كلغة كاملة أهملتها فانداحت عن ذاكرتك كما تنداح حلقات الماء عن مركز حجر يُلقى في مياه راكدة، لكنني لا زلت ذلك “النيرد” الذي يموت غيظا إذا ما واجهه أحد بخطأ عابر..

ذات صباح موجس.. كنت في طريقي إلى المدرسة متأخرا بضع دقائق كالعادة، فرأيت كوكبة من الأشقياء الصغار جوار السور الشرقي، كان من الواضح أنهم ليسوا من دعاة السلام وأعمال الخير والجماليات، أحدهم كان يمسك بعلبة رش “سبراي” يكتب بها شيئا على السور.. والآخرون يشاطرونه الضحك، يبدو أنهم أتموا مهمتهم – في مدرستنا على الأقل – فانسحبوا، حين وصلت إلى تلك البقعة لم أتمالك نفسي…!!

كانت هناك كلمة نابية مقذعة تحتل مترا مربعا من السور على الأقل، كتبت بعلبة الرش الأسود كي تلفت نظر كل من يمر من هناك، الكلمة كانت كارثة حقيقية، خصوصا وأن السور الشرقي يطل على طريق تمر منه فتيات الثانوية بالغداة والعشي.. شئ ليس من السهل السكوت عنه..

الأدهى – بالنسبة لي – أن الكلمة فيها خطأ إملائي مخيف.. كانت تنقص حرفا، ولعمري أن هذا استفزني أكثر مما فعلت الكلمة ذاتها…!!

حسب فلسفة الغرب.. فإن الكتابة على الجدران تأخذ أبعادا نفسية متشابكة ليس هذا بمعرض شرحها وتفنيدها، لكن “سودارس” هو الإسم الذي اعتمده أتباع “فرويد” وتلميذه “يانغ” للتعريف بهذه الفئة من المخربين، الذين يخرجون ضغائنهم في صورة حروف تكلف المضيف وقتا ومالا وخزيا أمام النظارة من المارين..

أخذت أفكر في طريقة لحل المعضلة الماثلة أمامي بلا جدوى، في لجة من يأس وجدت بعض الفحم على زاوية السور، وقبل أن تختمر الفكرة تماما إلتقطت قطعة من الفحم مررتها على السور..

ما أجمل الصدف المحتشدة في صورة حل!!.. الخط مشابه جدا لخط الدهان على السور، ومادة السور قابلة للكتابة أيضا.. ياللروعة…!!

ماذا لو وضعت ألفا قبل الشين هنا، ثم وسّطت الكلمة براء أخرى؟!!
جميل.. لكن هذا لا معنى له!!

حسنا.. ولو فتحت التاء في نهاية الكلمة؟!!
بديع حقا.. لكن الكلمة تحولت إلى ما يشبه إسم ضاحية في ولاية “ماساتشوستس”…… (هل نطقي لها صحيح) ؟!!

هرشت رأسي وأنا أعض على لساني مظهرا لنفسي انهماكي فيما أفعل.. لمعت في رأسي فكرة حرف جديد قد يقلب المعادلة رأسا على عقب، فهممت بكتابته… حين انفتحت أبواب الجحيم…!!

سمعت صوت سيارة مسرعة يتبعها انزلاق فرامل على الأرض المبتلة، وثمة من يصرخ آمرا: إمسك.. حلّق.. وقّف !!

إستدرت شاعرا بذات شعور الفأر “جيري” حين ألقته ألاعيبه في محل للمجوهرات فظنوا به الظنون، حاولت شرح موقفي لرهبان الداخلية هؤلاء.. دون جدوى..

– أنا.. كنت.. ماشي.. لقيتهم.. بكتبوا.. صلحت !!

قال لي أحدهم مبتسما في عذوبة:-

– أجل أجل.. نعرف أن لديك قصة رائعة.. وفّرها لتقصها على زملائك في المكان الذي ستقضي فيه الصيف القادم..

وبعد لأيٍ ومحاولات عديدة للشرح.. تبين أنه لا زال في الكون متسع لكلمة طيبة، هكذا وجدت أحدهم يدس في يدي فرشاة صغيرة ودلوا فيه لتر من الدهان الأبيض ويشير إلى الحائط المنكوب، في إشارة واضحة فهمتها ببديهتي المشحوذة فورا..

كنت أساهم في تجميل المدينة، في حين يتشكّل قراري ببطء مع دمعة متحجرة في مقلتي اليمنى.. سوف لن أدس أنفي فيما لا يعنيني ثانية…!!

كانت تلك هي نهاية عهدي بالقلم..

مم يشتكي الكيبورد ؟؟!!!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى