أهلُ القرآن ولغات العصر / أيمن يوسف أبولبن

أهلُ القرآن ولغات العصر

حسب المراجع التاريخيّة، فقد نزل القرآن وفي قريش نفرٌ قليلٌ يُتقن القراءة والكتابة، وما أن نزل القرآن حتى باتت الحاجة مُلحّة لإتقان القراءة والكتابة، وكان ذلك إيذاناً ببزوغ فجرٍ جديد للحضارة العربية، التي نزل فيها الوحي أول ما نزل بلفظ «اقرأ».
ولمّا استتب الأمر للمسلمين في المدينة المنورة، أوعز الرسول (ص) لكَتَبَتِه تعلّم لغات الأمم الأخرى مثل السريانية والآراميّة واللغة العبرية وغيرها، فكان الرسول (ص) يُراسل ملوك الدول الأخرى بلغتهم ويتواصل معهم بما يفهمون ويُدركون، وبرز حينها (زيد بن ثابت) بإتقانه للّغات الأجنبية وتولّيه شؤون المراسلات ومحاورة علماء اليهود.
وفيما بعد، كانت لهذه الخطوات فوائد جمّة لرفعة الحضارة الإسلامية، فقد امتزجت ثقافات الأمم الأخرى بالثقافة الإسلامية وتأثرت حضارة الدولة الإسلامية في بداية عهدها بحضارات الأمم الأخرى، فأخذت عن الفارسية شؤون الدواوين والمراسلات والتأريخ، وأخذت عن الحضارة الرومانية طرائق إدارة شؤون البلاد والحُكْم، ونقلت الفلسفة اليونانية وفن التأليف والتدوين والكتابة العلمية والتبويب.
وكان للترجمات ونقل مؤلفات الحضارات الأخرى للعربية أثر واضح وجلي في تطور العلوم عند المسلمين ورقي حضارتهم فيما بعد حتى أن اللغة العربية نقلت العديد من المفردات عن اللغات الأجنبية، مثل السندس والياقوت والفيروز والمغناطيس وغيرها الكثير، كما نقلت الكثير من الحِكـَم الفارسية وقصص الأدب والخيال مثل (كليلة ودمـنة) و(السندباد)، وتأثرت الحضارة العربية بمُنتجـات الفلسـفة اليونانـية، ولكنها نجحت في ذات الوقت في المحافظة على أصالة اللغة والدين وتفوقهما على باقي الحضارات، فاندثرت اللغات القديمة وبقيـت العـربية، وانضـوى السواد الأعظم من سكّان البلاد المجاورة تحت راية الإسـلام.
هذا ما حصل في القرن السابع الميلادي، ولكن المفاجئ أن يشهد القرن العشرون بعد ظهور ما يعرف بالمدارس التعليمية الحديثة (والتي تطوّرت عن الكُتّاب) دعوة علماء الدين لعامة الناس العزوف عن تعلّم اللغات الأجنبية واعتبارها من المنكرات أو المحرّمات، بل إنهم شدّدوا على أن العلوم الشرعية هي فقط العلوم النافعة فيما اعتبروا باقي العلوم من العلوم الهامشية التي لا فضل لها على البشر ولا فضل لمن تعلّمها ولا حتى أجرٌ أو وثواب، وينطبق هذا في واقع الحال على الأدب والفن وباقي نواحي المعرفة.
المُدهش أن تجد أن هذا الأمر بشكل أو بآخر ما زال يتكرر إلى يومنا هذا، ليس فقط في عقول البعض ورسوخه في قناعاتهم ولكنه موجود بشكل مؤسسي ومنهجي في بعض الدول، وفي معظم المؤسسات الدينية والعلوم الشرعية والقضائية في عالمنا العربي.
أذكر أن أحد أصدقائي في المرحلة الثانوية نصحني وأنا أناظر بعض الكتب في أكشاك وسط البلد، أن أتوجه إلى كتب الفقه والشرع قائلاً أشتري كتاباً يُفيدك في علوم الدين، أمّا ما سواها فهي علوم موضوعة لا قيمة لها (وهو لا شكّ صادقٌ في نصيحته ونيّته الطيبة لي).
هذا الانعزال عن العالم والخوف من الانفتاح على ثقافات الأمم الأخرى وما نتج عنه من تقوقع داخل قالب جامد من المفاهيم حول الدين والحياة والطبيعة، أدّى في النهاية إلى انفصال الدين عن المعرفة، وانفصال الدين عن باقي نواحي الحياة. وخير دليل على هذا اختزال لفظ «العالِم» في عالمنا العربي في «رجل الدين» فقط، دون باقي العلوم من فضاء وذرة وكيمياء وهندسة…الخ
أما صفة هذا العالِم، فهي صورة نمطيّة في المظهر والجوهر مفادها أن الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، في تجاهل كامل لرسالة الإنسان الأولى على هذه الأرض ألا وهي إعمارها والعمل على استصلاحها والتعاون مع باقي الأمم لتوفير الحياة الطيبة على ظهرها، باستخدام العلم والمعرفة وإنتاجهما، وتطبيق منظومة القيم الإنسانية المشتركة، ناهيك عن الحديث عن الجمال والفن والأدب وحلاوة الإنجاز والابداع والتفوّق في علوم الحياة، وانسجام هذه العلوم والآداب مع التقوى وصلاح القلوب والأعمال وتحقيق غاية الله من الخلق.
وبهذا ترسّخ البحث العلمي في أذهان الناس وتم اختصاره في العلم الشرعي بينما تم الحطّ من قدر باقي العلوم بما في ذلك التدريس والتعليم ما دام لا يتعلق بالدين والشرع.
لا يمكن فهم الدين بمعزل عن العلم والأدب والفلسفة كما لا يمكن لرسالة الله على الأرض (الإسلام العام الشامل والعالمي) أن ينتشر وتتحقّق مجموعة القيم الإنسانية والقواسم الأخلاقية المشتركة بدون الانفتاح على الآخر وتقدير حضارته وثقافته. يقول الله تع إلى (وخلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا).
من المؤسف العلم أن بعض مؤسساتنا الحكومية وقطاعات مهمة في عالمنا العربي، ما زالت تعاني من مشكلة اللغة الأجنبية، والاطلاع على العلوم وأبواب المعرفة المختلفة إلى يومنا هذا، ناهيك عن استخدام أدوات العصر مثل أجهزة الحاسوب والهواتف الذكية والانترنت والتطبيقات الذكية، في الوقت الذي تتعامل فيه بعض الدول المتقدمة مع الأجهزة الذكية وتطبيقات الكمبيوتر، بصفتها لغة أساسية ورسمية، بل إن مفهوم الأميّة في هذه البلدان قد تطوّر ليشمل كل من لا يتقن التعامل مع الأجهزة الذكيّة والشبكة العنكبوتيّة!
كيف يمكن فهم القرآن وهو كتاب الله إلى البشرية جمعاء بمعزل عن العلم والمعرفة وأدب اللغة والجيولوجيا والمناخ والفلسفة والمنطق وفن الخطاب، وكيف يمكن إصدار فتوى أو حكم ديني دون دراسة هذه العلوم والتخصّص فيها، يقول الله تع إلى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ).
إن من أولويات تطوير الخطاب الديني هو تطوير أدواتنا المعرفية وترقية قدراتنا لتشمل جميع نواحي الحياة والانفتاح نحو كل مجالات الحياة من أدب وفن وحضارة وإتقان لغات العصر، ولهذا أعتقد أننا بحاجة إلى إعادة النظر في جميع مناهجنا الجامعية وبالأخص مناهجنا الدينية والعلوم الشرعية، وتوسيع دائرتها أفقياً وعمودياً بحيث تشمل مناحي الحياة كافة.
إن الاهتمام بالبحث العلمي، وتطوير المناهج الدراسية، والعمل على تنمية قدرات الأفراد والمجتمعات، جنباً إلى جنب مع تطوير الخطاب الديني واقتراب الدين أكثر فأكثر من الواقع الحياتي واقترانه بالمعرفة والعلوم والأدب، هو السبيل الوحيد لنهوض هذه الأمة واستعادة مكانتها بين الأمم.
وإذا كان الأفق مغلقاً في عالمنا العربي فيما يخص الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، ولو مرحلياً، فإني أعتقد أن علينا نحن الأفراد والمواطنين واجب القيام بثورة فكرية في المفاهيم، وتطوير أدواتنا المعرفية، وإعادة النظر في كل الموروثات الثقافية والدينية والتاريخية، بما يخدم النهضة المأمولة، وهي مهمّة لا تقلّ أهمية أو صعوبة عن المطالبات الشعبية المتكررة للحكومات بضرورة الإصلاح السياسي والاقتصادي.

كاتب ومُدوّن من الأردن

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى