هل لدينا رجال دولة؟

هل لدينا رجال دولة؟

د. علي المستريحي

في إحدى محاضراتي في مساق الإدارة الحكومية سألني يوما أحد طلبتي: “هل لدينا حاليا في الأردن رجال دولة؟”. كان ذلك في خضم الربيع الأردني حوالي عام 2012. فما كان مني إلا أنني صمتُّ لبرهة، ثم أطلقت ابتسامة عريضة لا بد أنها كانت تخفي بطياتها بعض الحزن. فقد تذكرت أنني نفسي وجهت يوما ذات السؤال لأحد أساتذتي حوالي عام 1998 وكنت طالبا حينها، وكان ذلك في خضم أحداث عاصفة عاشتها الأردن انتهت إلى تنحية الأمير الحسن عن ولايته للعهد، ولكني لم أتلقَّ إجابة واضحة أو وافية على سؤالي من أستاذي، مما دفعني حينها للبحث بالمصادر والمراجع عن تعريف “رجل الدولةStatesman”، وهو ما أجبت فيه طالبي ردا على سؤاله بتلك المحاضرة.

يتفق معظم الذين حاولوا تقديم توصيف محدد لرجل الدولة (أو ما يعرف بالـ Statesmanship بالمجمل) إلى أن هذه الصفة تطلق على:

(صاحب تلك الشخصية العامة أو السياسية الذي يتمتع بالتزامه بالمعايير الأخلاقية العالية، وبرؤية جلية ثاقبة في الظروف الأزماتية الاستثنائية العاصفة المعقدة والأوقات العصيبة، والتي يكتنفها الكثير من الغموض وضياعالبوصلة وتلاطم الأمواج، فيتصرف في شؤون الدولة بأقصى درجات الحكمة والاتزان والمهارة والثقة، فلا يخشى عواقب أفعاله وآرائه ولا يتردد بتقديم النصح لصاحب السلطة، فلا يحسب حساباً إلا لضميره ووجدانه، ولا يضع باعتباره إلا المصلحة العليا لوطنه). وبالتعبير الأردني، رجل بحق ونشمي شامخ و “ابن أبيه”، رجل كان أو امرأة!

ولكن البحث المتعمق بمفهوم “رجل الدولة”، أفضى بي أخيرا إلى أفضل توصيف له كما ورد بالقرآن الكريم وجسّدته الآية الكريمة: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ [الأحزاب: 23]. وحسب هذا التوصيف، فإن من المؤكد أن رجلاً مثل سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره الكثير بالتاريخ الإسلامي كانوا بحق رجال دولة بعد الرسول عليه السلام. أما من الأمثلة العالمية التي تتكرر عند توصيف رجل الدولة شخصيات مثل لينكولن، تشرشل، ديغول وآخرون مثل جون مارشال، القاضي الذي صاغ الدستور الأمريكي، ونعوم تشومسكي، الناشط الأمريكي في السياسة والإعلام، وبنيامين فرانكلين الذي وحّد أمريكا في بداياتها وساعد بتحرير العبيد هناك.

وعلى ذلك، يمكن لأي شخص أن يكون رجلَ دولة، ويكفي فقط أن يكون فاعلاً، مؤثراً لدى العامة، سياسياً أو اجتماعياً، فيحظى بتقديرهم واحترامهم الواسعين، فيروا أنه جديرٌ بثقتهم فيه. ففي التاريخ الأردني البعيد والقريب، وعلى مستوى العامة، ومن أكثر الذين أشارت لهم المصادر (the most cited)، هناك أمثلة عديدة لشخصيات أردنية كانوا بحق رجال دولة. فشخصيات مثل (وذلك على سبيل المثال فقط، لا الحصر، ومع حفظ الألقاب) ماجد العدوان، صايل الشهوان، علي الشرايري، سليمان النابلسي، كليب الشريدة، عبد المنعم الرفاعي، وصفي التل، هزاع المجالي، مشهور الجازي، مثقال الفايز، سعود القاضي، فلاح المدادحة وفرحان شبيلات وصالح العرموطي، وغيرهم الكثير، يمكن تصنيفهم كرجال دولة حقيقيون، وربما بدرجات متفاوتة نسبيا، ولكنهم بلا شك يقعون بالمجمل ضمن دائرة التصنيف.

ولكن الملاحظ أن عددَ الذين يمكن تصنيفهم كرجال دولة بدأ يتضاءل تدريجيا بعد النصف الثاني من مئوية عمر الدولة بسبب التضييق على كثير منهم ومحاولات تهميشهم وإقصائهم. المضحك المبكي أنه عند البحث بمحرك غوغل عن “شخصيات أردنية” يظهر لك أكثر من عنوان مثل “اعتقال شخصيات أردنية بارزة ..” و “السلطات الأردنية تعتقل شخصيات بارزة ..”!

ولكن بالوقت ذاته، لا يمكن اعتبار كل من تولي موقع عام، كوزير أو رئيس للوزراء، يؤهله ذلك المنصب حُكماً أن يكون رجل دولة. فكم من الذي تولوا المسؤولية العامة مرّوا علينا مرور اللاكرام! فمنهم من خدم فئة ضئيلة تخصهم أو خدم نفسه بالمال والأعمال وتملق لمًن هم أعلى منه للوصول لمنصب أعلى، فاندثروا إلى مزابل التاريخ ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً. المثير للضحك وللتأمل، أنه، وبعد المحاضرة التي طرح فيها طالبي سؤاله، جاء إلى مكتبي طالب آخر يسألني: “يعني يا دكتور خالي (شقيق والدته من الذين شغلوا يوما أعلى المناصب) لا يُعدّ رجل دولة؟!”. فأجبته ارجع للتعريف واحكم بنفسك!

ما حدث بالأردن قبل يومين بحادثة “مخطط زعزعة الاستقرار” (كما ورد على لسان الحكومة)، حدثٌ جلل، أعاد ذاكرتي إلى سؤال طالبي قبل عقد من الزمن، وهو ذات السؤال الذي وجّهته لأستاذي قبل عقدين ونيّف، وسؤال الطالب الآخر عن تصنيف خاله (ذي المنصب الرفيع يوماً). أقف متأملا، لا ألوم تلك الفئة المرتزقة المتكسّبة التي تولت يوما، ومنها فئة ما زالت، مواقع المسؤولية ممن يمكن وصفهم بالنطيحة والموقوذة والمتردية والمنخنقة من مصاصي الدماء وأكلة لحوم الأردنيين الحرام، فلهؤلاء شأنهم وقد اختاروا طريقهم. لكني أسأل بنفسي (وطلبتي وكل الأردنيين أيضا)، لماذا صَمَتَ كلُ من نفترض فيهم قول كلمة حق في هذا الظرف العصيب الذي اكتنفه الكثير من الغموض وضياع البوصلة وتلاطم الأمواج؟ أين مجلس حكماء الملك ورجال الدين والقضاء والبرلمان وكل الرجال الذين حوله في تقديم النصح له بمثل هذه الظروف العصيبة؟ هل تحولوا كلهم إلى نطيحة أو موقوذة أو متردية أو منخنقة؟ أليس من الحكمة والمنطق أن نقول أنهم أصبحوا جميعا عبئاً على الدولة والنظام والشعب ويجب استئصالهم والتخلص منهم إلى الأبد وإعادة “فرمته السيستم” واستبدالهم برجال دولة حقيقيين يكونون عوناً للملك لا عليه؟ ألم يحن الوقت لإعادة الاعتبار لكل الناصحين الذين تم تهميشهم وإقصائهم وتهجيرهم بغية الاستعانة بهم لإعادة ترميم كيان الدولة وبناء مؤسساتها من جديد وإنقاذ ما يمكن إنقاذه؟
الأردن اليوم على مفترق طرق: إما الإصلاح الشامل، أو الاستمرار بنفس النهج الكارثي الذي أفضى إلى ما أفضى إليه. لا حل بالوسط، وبديل المنطقة الرمادية لن يجدي نفعاً، والمستقبل شاهد بيننا وعلينا. حمى الله الأردن بلد التين والزيتون ومصنع النشامى.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى