“آنيانيوكا” / سعيد ذياب سليم

“آنيانيوكا”
سعيد ذياب سليم

إذا ما سرت في مدينتنا في الطرق القديمة يهاجمك الحنين ، يثير آلام في القلب و تغطّيك سحابة من حزن، يخالجك إحساس بأن أرواحا تسير معك أو تسبق خطوك ، تستشعر اضطراب أنفاسها حولك، و ينسدل الصمت ستارة تغطي الكلمات فلا تسمع من كلامهم شيء ، لكن موجات أثيرية تصطدم بك و تلمح فيها وجوها مألوفة.
تسير من شارع إلى آخر ، ما تزال قدماك تذكر تعرجات الرصيف و تتجنب عثراته، تناظر الوجوه حولك وتتبع الظلال إلى أن تنهكك الذكريات، فتجمع شتات نفسك فوق مقعد تُرك بلا أنيس، تطلب كوبا من بائع العصائر ، وتجلس تسترجع الذكرى وتحادث النفس لتملي عليك لحظات العمر الفائت و تشعرك كم هو لاذع طعم الخيبة! ما بالنا نميل إلى السقوط نحو الأمس؟ وكأن مبدأ القصور الذاتي يتحكم بنا و يعيدنا إلى الابتسامة الأولى.
ربما نختار بعض أقدارنا، لن تكون صدفة كما تُحدثنا الحكايات، نختار دورا هزليا على مسرح العرائس فلا يلبث أن ينقلب إلى دور درامي تضيع فيه خيوط اللعبة من بين يديك، ويتوه فيه القلب وتصبح الوردة سكينا لتكتشف أن في المرآة وجه آخر في ثنائية مريضة.
تجلس بجوارك “آنيانيوكا ” فتاة الأسطورة التشيلية الجميلة، لتروي كيف ترعرعت بين شبان قريتها وكيف كان الوصول إليها مستحيلا، ثم لتذوق طعم الحب فوق شفاه عابر غريب ، لتحرقها نار العشق وتموت حزنا وقهرا و انتظارا للحبيب الذي خرج يلاحق عرقا ذهبيا في منجم أسطوري، لكن الموت لم يوقف انتظارها للحبيب الذي لن يعود، خرجت من التراب وردة جميلة تذكار حب، تطل من سفح جبلي عال ترنو للأفق لعله يعود.
أين “آنيانيوكا” خاصتك و هل ما زالت تنتظر؟ تبتسم في مرارة و تنظر إلى جهة أخرى، ربما مررنا سويا من هذا الشارع توقفنا هنا أمام بائع الكتب ضاعت نظراتنا بين العناوين ثم تدافعنا مبتعدين مثل عصافير الجنة، كان لحديثها رنين موسيقي يخطفك و يطير بك بعيدا في حلم سعيد.
لكنّا صحونا على سفرٍ كالسحر يأخذنا إلى حافة العالم ثم لنلتقي غريبين مكبّلين لا ينتمي أحدنا للآخر ويربطنا بقايا جرح قديم غائر في القلب له طعم الخيانة و الخيبة.
لا بحر في مدينتنا تسير فيه المراكب، هو ميناء على أبواب الصحراء، تنطلق منه القوافل نحو جزر بعيدة، ترحل بالأحلام و الوعود و الأماني و قصص الحب التي يلونها الفشل، لماذا يحدث لنا ذلك؟ ربما لأننا نخلط بين الصداقة و الحب و الشهوة، ربما لأن أفكارنا ليست لنا، تنتمي لحكايات دارت على شطآن المحيطات أو في غابات الصنوبر البعيدة، في فترة التحرر الذي غزى العالم في القرن العشرين، ملامحها غريبة عن سُمرتنا و جفاف شفاهنا ورائحة هوائنا .
عندما كنا نلتقي كانت تضحك كطفلة صغيرة تلعب بدميتها ، وأحيانا يهاجمها الحزن ، فتنهار بكاء وكأنها ترى نبوءات شريرة تخشى تحققها، كان ذلك يفتح في وجهي أبواب الوهن و تغرقني عتمة ليل عاصف لا أرى فيه شعاع أمل، و أعلم أن بقاءنا معا احتمال ضعيف لكنني أخادع النفس إلى أن تحقق الفراق.
التقينا في مدينة تقع على المحيط البعيد، هي تمسك بيد أحدهم و أنا ممسك بيد أخرى، نبحث كلانا عن عرْقٍ ذهبي أسطوري ، صدفة لتكشف الأقدار لآنيانيوكا كم كنا حمقى -و ربما ما نزال- وكم كانت تخدعنا الأيام ، لم يقتلنا الحب و لا الفراق ولم تطرح الأرض أية ورود لذكرى الحب الذي كان .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى