الأغوار يلتهمها جشّع التجّار! / نورس قطيش

الأغوار يلتهمها جشّع التجّار!
في الربيع بينما تمشي على طريق الستّين الغوريّ المتدفّق سحراً في بطن الوادي الأخضر من العدسيّة الشماليّة حتّى البحر الميّت، تشعر وكأنك تسير في عدن، تسلّم عليك الأشجار يمنةً، وتلثمك الأزهار بثغرها يسرةً!
تدفعك نسمات الحقول لتنساب في حضن الغور كجريان الماء في نهر الأردن، تحييك الطيور بأعذب الألحان، يتبسّم لك بائع عقد البسباس الأصفر، ويلوّح لك طلاب الرحلات المدرسيّة القادمين للأغوار!
تكبر الأشجار وتمتد الغصون لتعانق أكتاف الشارع، فتنبت الأوراق لتشكّل غيمات تظلّ بها السائح والمزارع!
بينما تقود سيارتك في هذا الشارع،ويدك تتلصص خارج النافذة لتدغدغ بأصابعك النسيم. لطالما كنت أفضّل هذا الطريق عندما أذهب للعاصمة الإسمنتيّة عمّان؛ رغم تخوّف والدي من طريق العارضة، لكن؛ خصلات الطريق المخضّبة، تسوّي تعرّجات العارضة الحادّة!
عقد الأشجار اليانعة على كتفي الطريق ما زال لؤلؤاً يلتفّ حول الحقول، عشّاً لكلّ الطيور، مشتى الزوّار ومربع السيّاح!
من يصدّق أن قبيلة الأشجار تلك ستفنى؟!
من سيعرّف المارّ من هذا الشريان أنه في قلب الأغوار؟!
أين ستذهب جوقة العصافير العازفة لموسيقى الصباح؟!
أسير في بلاد الغربة المقفرّة، وعلى طرقاتها أرسم بمخيلتي عقد الشجر الأخضر وسرب الطيور، أحرّك الهواء باليمنى لتنسّم، وباليسرى ألوّح كمايسترو للعصافير!
ما أصعب أن تُفنى الذكريات، ويصير الواقع الذي عشته من سراب كلّما هممت بالرجوع إلى البلاد!
ما أصعب الحال إذ صرنا نسير في هذا الطريق كالمشي في سيق إسمنتيّ، يأكله جشع التجّار بالتعدّي، ويغرقه زحمة الباعة بالتحدّي!
من أصدر هذا القرار؛ تحويل الواجهات الزراعية المحاذية لشارع الستين في الأغوار بعمق ٤٠م لتجاري، يقطن في مجتمع اسمنتي، يشرب قهوته في بلكونة ملؤها الورد الاصطناعي، يستنشق عوادم المصانع ويستمع لضجيج السيارات. كيف لهذا أن يفهم لغة خطابنا مع الطير والشجر، كيف له أن يعلم عمق علاقتنا مع المطر والحجر!
هذا الإسمنتيّ لا يفهم إلا لغة المال والتجارة، لا يبالي بتضحية الشجر وهي تمنحنا الأكسجين، لا يهمّه إحساس العائد لبيته وهو يستنشق الحياة، لا يعلم إننا نسكن الأغوار حبّاً بهذا الجمال وليس من أجل المال!
ألا تعلم يا حضرة القاضي بأن أكثر نصف السكّان هنا لا يمتلكون المزارع والوحدات الزراعية، ويستقرّون هنا بدافع الحبّ لهذا الغور المبارك!

نحن حنّاء الأرض
وصوت عصافيرنا أجراس
فانبت يا دحنون من دمائنا
وامتدّي يا حقول البسباس
أرقيك يا غور بآيات الله
من شرّ كلّ وسواس خنّاس!

ن.ق

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كلام اكثر من رائع، يصف واقع الغوريّون وألمهم بكل دقة.
    أبدعت!

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى