نابليون ومذبحة المعلّم بوكسَر

نابليون ومذبحة المعلّم بوكسَر
د. جودت سرسك

بوكسر حصانٌ في مزرعة الحيوان، لا يكلّ ولا يمل، لم تعُد قوّته كسابق عهدها، فقدْ فقدَ جلدُه بريقًه وتقلّصت وِركاه العظيمتان، إلّا أنّ رفاقه في المزرعة اعتقدوا أنّ بوكسر سيتحسن مع ظهور الربيع.
لا شيء يُبقي بوكسر على قيد الحياة سوى إرادة الاستمرار، لم يعُد يعتني بصحته خاصةً وأنّ عيد ميلاده النقابي يقترب من الأفول. كلّ ما يحلم به بوكسر حين يصل إلى سنّ التقاعد أن يجلس في ظلّ شجرة وارفة يعتاش على كومة القشّ الوفيرة التي تقدّم له جرّاء إخلاصه لنابليون ومباديء الحيوانية التي يترأسها الخنزير نابليون ورفاقه.
وفي إحدى أمسيات الصيف وأثناء خروج بوكسر وحيداً لجرّ حملٍ ثقيل من الحجارة لبناء الطاحونة، سقط ولم يستطع النهوض.
هُرِعت الحيوانات إلى الطاحونة بعد أنْ سرتْ الشائعات عن سقوط الرفيق بوكسر، كان مُمدداً على الأرض وقد سرتْ الدماء من جنبه وتصبّب عرقاً ودمعتْ عيناه.
طلبتْ الحيوانات المساعدة، وراحت تواسيه وهو يقول: لا بأس إنها رئتي، يمكنكم إنهاء البناء بدوني خاصة وأنّ تقاعدي يحين بعدَ شهر.
لقد علِم الرفيق نابليون بالمكروه الذي حلّ بأحد أكبر المخلصين في المزرعة، وقد أمرَ بإرساله للمعالجة.
استطاع بوكسر الوقوف على قدميه واستعادة شيءٍ من وعيه وجرّ نفسه عائداً إلى مربطه حيث بقي يومين في زريبته، يتناول الدواء الذي وجدته الخنازير في خزانة سيد المزرعة. وصلت العربة الضخمة لأخذ بوكسر، يجرّها جوادان برفقة رجل خبيث الطباع يرتدي قبعة سوداء اللون. إلى اللقاء يا بوكسر؛ صرخت الحيوانات. استطاع الحمار الصامت بنجامين تهجئة الحروف التي كتبت على جانبي العربة، مسلخ الحيوانات ومذبح الخيول وتوفير طعام الكلاب. لحقتْ الحيوانات بالحصان بوكسر الذي سمع جلبةً خارج نافذته المغلقة، اخرج يا بوكسر، إنهم يأخذونك إلى حتفك.
حاول أن يخرج فلم يُفلح، وسرعان ما تلاشت أصوات حوافره. توسلت الحيوانات الجوادين الذين يجرّان بوكسر إلى حتفه لكنهما أسرعا الخطا تحت سياط العبودية والجهل إلى أن اختفى بوكسر ومعه عبارات حتفه، عن الأنظار.
أعلن الخنزير التابع سكويلر نبأ وفاة الحصان بوكسر وبيّن لهم أنه حضر لحظات الوفاة، رفع حافره ومسح دموعه، وراح سكويلر يحدثهم عن كلمات بوكسر الأخيرة: نابليون على حق في كل ما يقول، وأنّ حزنه الجمّ هو أنه لم يستطع إكمال بناء حلم الطاحونة.

إلى الأمام أيها الرفاق، نابليون دوماً على حق. لقد قرّر نابليون إرسال إكليل من زهور الغار لتوضع على قبر بوكسر، وأمَر بتقديم الرعاية والدواء وتسديد ثمنه. خفّفت كلمات سكويلر وغمزاتُ عيونه من وطأة الأسى على موت بوكسر، وراح يَتّهم بالغباء كلّ من ظنّ أنّ بوكسر أُخِذ إلى حتفه عن قصد. كان بوكسر حيواناً ضخماً، يبلغ ارتفاعه ثمانية عشر ذراعاً، قوته تعادل قوة جوادين معاً، على وجهه بقعة بيضاء أسبغت عليه مظهراً يوحي بالغباء.
لقد أخلص بوكسر لفكرة الحيوانية ومبادي العصيان على الظلم، وأدرك أنّ حياته تعيسة، وأنه ورفاقه في المزرعة يأتون إلى الحياة ويكدّون ويكدحون دون أن ينالوا من الطعام ما يسدّ رمقهم. لقد أنشد نشيد الحرية وترانيم أغنية وحوش إنكلترا. ليس هناك حيوان في إنكلترا يعرف معنى السعادة بعد أن يبلغ عامه الأول. كلّا أيها الرفاق، إنّ أرض إنكلترا خصبة وبمقدورها أن تمنحنا الطعام الوفير. لماذا إذن نعيش حياة التعاسة؟ وبنو البشر يسرقون قوتَنا، الإنسان هو عدوّنا الحقيقي، لا يعطي البيض ولا يدرّ الحليب ولا يقوى على صيد الأرانب ولا حراثة الأرض. مات بوكسر ونسيت الحيوانات أفعاله وخصاله، وأصبح نابليون خنزيراً ناضجاً يزن نحو أربعمائة رطلاً، وبلغ الخنزير سكويلر مساعد نابليون من السُمنة حتى لم يقوَ على النظر بعينيه لتهدّل شحومها.
لم يتمتّع بوكسر بالذكاء، إلا أن الحيوانات كانت تحترمه، لقد آمن بكلمات الكرامة ومفردات وحوش إنكلترا وخصوبة المرعى: الثروات ستتجاوز تصوّر العقل-القمح والشعير، الشوفان والتبن، البرسيم، الفاصولياء والجذور، كلّ ذلك سيكون ملكاً لنا في ذلك اليوم.
لقد أفنى المعلّم نفسه في مدرسة الإنسان، يحلمُ أن يستظل في ظلّ شجرة ويكتفي بنصيبه من تِبن الكرامة وخُبز الحرية. ولمّا سقط مِن على حافة عمره وهو يبني طاحونة مستقبله، حضرت عربة السلخ فذبحت مابقي من ذكراه واكتفتْ بإكليل وردٍ باهت وألقوه خارج حظيرة وطنِه.
الوطن أغلى من الإنسان، والإنسانية فوق الأوطان، فما نفعُ حليب البقرِ إنْ لم يجدْ مَن يخرجه من صدورها، وما نفع المزرعة بلا بوكسر، وكما وهب الله بنجامين خليلَ بوكسر ذيلاً ليهشّ به الذباب عن وجهه، فقد وهبنا أقلاماً ونقابة تعلي صوتنا وتهشُّ عن وجوهِنا ذبابَ السُلطةِ وأكاذيب سكويلر. عاش الرفيق سكويلر ومات نابليون الذي يمشي على اثنتين.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى