مَوسِم الهِجْرة إلى الزّيْتون

مَوسِم الهِجْرة إلى الزّيْتون
د.جودت سرسك

(وِنْ كانْ ما في وَرَق، لَكْتُبْ عَلحَصيرِة،وِنْ كانْ ما فِي حِبر بِدْموع عينيَّ)،تبوحُ أهازيج موسمِ قطاف ودقّ الزيتون بتسابيح نبَطيّةٍ وكنعانية عربيّة، تشهد لها خَزنةُ البتراء وأعمدةُ أمِّ قيسٍ وغابات برقُش وتضاريس الكفاراتْ الرِبداويّة، وقدّاسُ بيتِ لحمٍ البهيّة.
تشدو أغصانُ الزيتونِ لقاطفيها في مشهدٍ لا تعرف له الحكايا مثيل، تتراقص عباراتُ الفرح والأهازيج الموسميّة في موسم قطاف الزيتون، حيث تجتمع الحجّاتُ والشيوخ والصبيانُ على موسم جَنْي الفرَح وحبّاتِ الرِزق والعِشْق، وقد تلوّنت أياديهم بِزهْرِ الزيتون وتجاعيد طُورِ سينينَ وهذا البلد الأمين.
يَحلُمون بموسم فَرطٍ غزير،بعد أنْ غسَلتْه حبّاتُ المطر،يتعاونون كما تتعاون أصابع راحاتهم ، فيُجيزُ موظفُ الحكومة والعسكريُّ نفسَه من عمَلِه بحجة قَطفِ الزيتون، فلا يُردّ له طلبٌ أمام قداسةِ العُذر،يتبادلون الحديثَ في قُرى الخَيرعَن عَددِ التنَكاتِ التي جناها كرْمُ أبي محمود، وتنكاتِ أبي مشعل، وفي عيونهم بريقُ الزيتِ ينسَكب على خدودِهم التي لمَعتْ كبريق نجْمِ سْهيل.
إنّ موسمَ عصرِ الزيتون يبوحُ لنا بحكاياتٍ لم تُسطِّرْها ملاحمُ جلجامِش السومرية في بلاد الرافدين فتُنبِت الآلهة شجرةَ زيتونٍ عِوضاً عن الأرزة التي قطعها جلجامش ، ولا مؤلفات ألف ليلة وليلة العبّاسيين،تخبرنا الحكايات كَمْ يُشبِهنا هذا النَبتُ المباركُ ،وكم يُشبِه الفطرةَ التي فُطِرَ الناسُ عليها ولا يُشبِهنا.
ينصّ المثَلُ العمونيّ والأدوميّ على أنّ الزيتون لا يحْلو إلا معَ الرّصّ، ويَظهَر زيتُه وبرَكتُه الذي ينيرُ سراجَ قلوبِنا وبيوتِنا، ويبعث بشيءٍ من زيتِه ليُسرِجَ المسجدَ الأقصى.
يجتمع أهل الزيتون دون أنْ يوجعَهم جرحٌ في يدِهم، مِن غصنٍ أو شنتيرةٌ طارتْ في عينِ حالمٍ بقطافٍ وفِير،يحفَظون حديثَ أمّهم ميمونة ،تسأل نبيّهم أبا القاسم:أفْتِنا في بيت المقدِس،قال: أرضُ المحشَر والمنْشر،ائتوه فصَلوا فيه،فإنّ صلاة فيه كألف صَلاةٍ في غَيره ،قالتْ لهُم أمّنا ميمونةُ أنّها سألتْ نَبِيّهم ،ماذا يفعلونَ إنْ حالتْ جندُ الغاصبين بينَهم وبينَ الصلاةِ فيه ؟ فقال لها :اهدوا له زيتاً يُسرَجُ فيه.
يعلمونَ أنّ شيئاً من زيتونهم فداءً للمسجد الأقصى وإنْ خذَلَه المخذّلون.
كم يُشبه عصرُ الزيتون الذي يُخرج أجملَ ما فيه ،كم يُشبه فِطرةَ بني آدم النقيّة ولا يُشبه سلوكَنا الذي لم يَعرفِ الإيثارَ، وتَبِعَ أزمَة تخزينِ الموادّ الغذائيةِ والتجوال على المولات ودكاكينِ الحيّ التي فرَغتْ، والمخابز التي شحّ خبزُها لكثرةِ ما أُنهِكتْ ماكيناتُها توفيراً لرَبْطاتِ خبزٍ تُجمَع في برّادات البُيوتِ ثم تُلقي- بعد فَكّ موسِمِ الحَظْر- في الحاويات ،فلا ينتَفع بها طيرٌ ولا ماشيةٌ بعد أنْ تعفّنت.
“الزيتونة مثِل ما بِدّك منها ،بِدها منّك”،فهي الوطنُ الذي لا يفرّ أمام عدوّ، ولا يغدُرُ بأبنائه ويجوّعهم ،له حقّ علينا كما لنا حقٌّ عليه.
إنّ أزمة كورونا أخرجت أجمل ما فينا، كما يُخرِج عصرُ الزيتون أجمَلَ مافيه، إنْ تلاقتْ قلوبنا وحلّقتْ كالطيور الوادعة، لا تخافُ رِزقَها وتعلمُ وعدَ الله دون رَيْب خماصاً وبِطاناً.
لا زيتَ ولا زيتون بلاكَ يا وطني ،ولا وطنٌ بلا حاصدي زيتونٍ بأكفٍّ طاهرة ،لا تعرِف غُشّاً ولا تخلط زيتَ قبَسِ موسى بزيتِ عِجلِ بني إسرائيل المُهَدرَج.
ما أشبه لونَ الزيتون وطعمَه المُرّ في أولِ قطافِه، قبلَ أنْ تُشبِعَه حبّاتُ المطَرِ فيحلو ويَخِفّ عَكَرُه، ما أشبهه بصفاء قلوبنا وتسامحِنا وتشارُكِ البرَكة،ما أجمَلَ أمّ محمود حين تهدي وعاءَ زيتٍ لأمّ عليّ ،فتهديها أمّ عليٍّ مَطْرباناً مِن زيتونٍ وشّحَتْه بحبّات الليمون ولونِ الكُركُم، فغدا عروساً امتلأت بالبريق، وتوارتْ الشمسُ مِن عينيها.
ما أجمْلَ الزيتونَ حين يعفو عن امرأةٍ ألقَتْ بساطَها تحت شجيراتٍ على قارعة الطريق ،في حيٍّ تجاري نسِي أصحابُه شجراتِه،فقطفتْها لتجمعَها وتحصلَ مِن ثمرِها على نصف تنَكةِ زيتٍ تجمعها مع حبّات زيتونٍ في العاصمة عمّان قد أثقلها الغبار ودخّانُ السيّارات،تنهال حبات الزيتون كالمطر على بساط امرأةٍ لا تعتبرُ سرقة الزيتون إثماً بل كرامة لها لأنها تعرف سماحتَه وبَرَكَته،لأنّه يُشبِه الوطَن.

J_sh_s@hotmail.com

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى