السياسات الحكومية الأردنية وإنتاج التطرف الاجتماعي

السياسات الحكومية الأردنية وإنتاج التطرف الاجتماعي
د. نبيل العتوم

تواجه الدولة الأردنية تحديات وأخطارا هي الأكبر منذ نشأتها ، لكن كيف وصلت الدولة إلى هذا الوضع؟.. ما هي الأسباب والعوامل التي قادت إلى هذه الأزمة والى هذه الأخطار والتحديات الوجودية؟
وهدف هذه المقالة البسيطة هو البحث بداية في جذور ازمة الدولة الأردنية وأبعادها المختلفة، ثم محاولة تحديد أهم العوامل التي تقود إلى التأثير على بنيتها في الوقت الحاضر، ثم ما يفرضه مستقبل الدولة الأردنية من تحديات على ضوء كل هذا، وما يترتب على ذلك بالضرورة من مهام.

ربما الحديث حول التطرف سيكون مختلفاً هذه المرة ، لأننا سنبحث موضوع التطرف الاجتماعي ، و عن دور و مسؤولية الحكومات الأردنية المتعاقبة بشكل أو بآخر عن تنامي هذه الظاهرة الخطيرة والملفتة جراء هذه السياسات. ما أدى إلى دينامية أكثر احتقاناً ، فبات الجميع بين خيارين لا ثالث لهما، إما أن نبني مجتمع مفتوح نتحاور فيه في العلن وتتحدث وتتنقد وتمارس السياسة وتخضع الدولة لمبادئ المساءلة والمحاسبة والنقد ، وإما الاستمرار في بناء المجتمع المغلق الذي يخشى فيها كل طرف من الآخر ، وتتطور معه أشكال العنف ، وأصبحنا أمام عملية تفكيك اجتماعي وسياسي ضمن عدد من المحاور ، وفي مقدمتها ما يلي:

أولا: تفكيك العملية الديمقراطية : في حقبة ما بعد الاستقلال، عاش الأردن مرحلة تحول ديمقراطي ازدهرت بشكل كبير ، وأدت إلى تكليف حكومات برلمانية ، ثم تراجعت تحت وقع الصراع العربي الإسرائيلي ، وتحت تأثير صعود الأنظمة العربية القومية واليسارية التي أرادت تحطيم الدولة الأردنية ، ثم لم تلبث لتسقط هذه الأنظمة ، وجاءت مرحلة تحول ديمقراطي بدأت في العام 1989، تحت ضغط ” هبة نيسان ” أو ما أصطلح على تسميته ” أحداث الجنوب ، ثورة الخبز …” ، ثم بدأت هذا التحول بالتراجع لأسباب كثيرة ، لكنها بالتأكيد أثرت سلباً على الدولة الأردنية ، على الرغم من عدم وجود متغيرات دافعة لهذا الانكفاء الديمقراطي . ولم يخضع العقل السياسي للدولة الأردنية نفسه للنقد والمراجعة والنقاش الايجابي ، وإعادة التقييم ، لدراسة أسباب وتبعات ذلك على المستقبل السياسي للدولة الأردنية ، فلم تستطع الحكومات المتعاقبة بناء عملية ديمقراطية بشكلها المؤسسي ، وتم إنتاج كيانات ديمقراطية تعاني من “التوحد” السياسي عوضاً عن ذلك ، وكانت النتيجة إفراغ العملية الديمقراطية من مضمونها .
ثانياً : تفكيك الأحزاب الفاعلة : برزت إشكالية التعامل مع الأحزاب والتنظيمات السياسية ؛ وفي مقدمتها الحركات الإسلامية ، و عجز الحكومات عن كيفية توظيف هذا التيار لأهداف الدولة الأردنية بعد أن وائم خلال تاريخه بين مرجعيته السياسية ، وطبيعة النظام السياسي الأردني ، خاصة أن هذا التيار غالباً ما كان يتم التوسل به لمواجهة التيارات اليسارية والقومية المتطرفة ، وكان يعتبر حاضنة لتجنيد النخب والشرائح التي تعبر عن قطاعات لأبأس بها ، وحد من عمليات التحول المتطرف على غرار ما حدث في مصر وسوريا والجزائر وغيرها من الدول ، وكان هذا يحسب لعبقرية العقل السياسي الأردني ، وبالمناسبة فقد حدت هذه الإستراتيجية التوافقية بين الدولة الأردنية والحركة الإسلامية ، إلى تعزيز شرعية الدولة الأردنية ، ودفعت إلى رفع نسب المشاركة السياسية ، وأصبح التيار الإسلامي جزءاً لا يتجزأ من عملية بناء الدولة السياسي ، بعد أن نجح في الاتفاق مع الدولة الأردنية على حدود اللعبة السياسية ، بموازاة ذلك نجحت الدولة في توظيف هذا التيار في عملية الحشد لمواجهة التحديات التي واجهت الدولة الأردنية إقليمياً ودولياً بذكاء منقطع النظير ، لكن الآن ماذا حصل ؟ هو العكس تماماً تحت ضغط المتغيرات الإقليمية والدولية التي دفعت الحكومات المتعاقبة إلى انتهاج سياسات هدفها شرذمة هذه الحركات ، ودفعت بالشرائح المنضوية تحتها إلى الانضمام إلى طوابير المحتجين .

ثالثاً : التفكيك الاجتماعي : العشائر مثالاً : كان التحالف بين الدولة والعشائر الأردنية هو ديدن الدولة الأردنية ، فعلى امتداد عقود الدولة الأردنية ، كان هناك خيار استراتيجي يقضي بتحالف الدولة مع هذا المكون الاجتماعي الرئيس الذي يشكل الخزان الاستراتيجي لمؤسسات الدولة الصلبة ” العسكرية والأمنية ” ، وكانت عبر تاريخ الأردن العامل الأساس لاستقرار الأردن .

مقالات ذات صلة

دون مقدمات ولندخل في الموضوع مباشرة لاعتبارات وعوامل لا داعي لذكرها ، سعت الحكومات الأردنية المتعاقبة إلى إستراتيجية تفكيك العشائر ، .ونستطيع ان نحدد خمس إستراتيجيات تم التوسل بها ، وهي على النحو التالي:
الإستراتيجية الأولى : التوسل بالإعلام لمحاولة إقناع الرأي العام أن العشائرية بصيغتها الحالية لا تنسجم مع الحداثة ، ولا تواكب عملية الانتقال الاجتماعي بصيغته العصرية ، وان الجوهر العام للفكر العشائري هو فكر متخلف في رؤيته لقضايا الدولة والمجتمع، وهو فكر هدم لا بناء ، وبات هذا هو الانطباع العام لخاصة لدى الشرائح الشبابية التي تشكل عصب العشائر ، مما أوجد حالة من الانفلات غير المسبوق بين صفوف أبنائها عززه ارتفاع مستويات الفقر والبطالة بينهم ، هذا عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في عمليات الاثارة والتحفيز لمعارضة سياسات الحكومات المتعاقبة .

الإستراتيجية الثانية : قانون الانتخاب و دوره في عملية التفكيك الاجتماعي ، الذي حدث باختصار شديد ان الحكومة تبنت قانوناً انتخابياً ، و بدلا من أن يؤدي هذا القانون إلى تعزيز الوحدة الوطنية ومحاربة العنصرية ، وتعزيز القيم العشائرية بمعناها الايجابي ، ما يؤدي إلى استقرار الدولة وتطوير مؤسساتها، كانت النتيجة عكسية حيث أدى تفعيل قانون الانتخاب إلى تعزيز النعرات والانقسامات العشائرية الأفقية والعامودية بشكل غير مسبوق ، و بات هذا القانون احد عوامل تفكيك العشائر بفعل ما حواه من نصوص متضاربة أسهمت معه إلى زيادة وتيرة التناحر والصراع العشائري بشكل غير مسبوق ، وأصبحت مثل هذه القوانين لا تراعي خصوصية العشائر الأردنية في إفراز نواب ممثلين لمناطقهم ، بحيث يشكلوا قنوات للتعبير عن قواعدهم العشائري بشكل ديمقراطي ، ومن هنا صارت الديمقراطية والانتخابات ، أدوات هدم اجتماعي لا بناء ؛ أي معاول تدمير لأسس ومقومات النسيج الاجتماعي الأردني .

الاستراتيجية الثالثة : الانتقال نحو الحداثة من خلال تدوير النخب ؛ ومن ضمنها اعادة انتاج الزعامات العشائرية بحلة جديدة ، وفق رؤية هندسية هدفها نقل زعامات إلى “الرف” بعد أن وصل بعضها إلى جنون العظمة ، والتوسل بخلق زعامات جديدة من العشائر الأخرى التي تم تأهيلها خلال فترة قياسية ، ومحاولة استقطاب الدولة للنخب اليسارية المحسوبة على بعض العشائر لتحقيق فكرة التمثيل العشائري وفق حسابات غير مدروسة ، ومحاولة الترويج لفكرة إدماج النخب الحزبية في مؤسسات صنع القرار الوطني ، هذا إلى جانب محاولة تعزيز البعد التمثيلي لنخب من عشائر محددة ، لتحطيم الزعامات التقليدية ، في محاولة لخلق فكرة التوازن في حجم التمثيل ، لكنها كانت في الأغلب تخلق موجة من السخط العشائري ضد الحكومات المتعاقبة ، لكن كل ذلك جاء على حساب تنمية المناطق إقتصادياً وإجتماعياً ، وولد حالة من الغبن نتيجة الغياب “المتعمد “لهذه النخب المنتقاه للتواصل مع قواعدها ، هذا عدا عن فشل الدولة في إيجاد التوازن العشائري المطلوب ، مما فهم على أنه رسالة حكومية متعمدة لاستهداف العشائر في معاقلها .

كل ما حصل من نتائج وممارسات وسياسات ، قادت إلى ترسخ مفهوم مؤداه أن الأولوية الكبرى والهدف الأساسي من الاستراتيجيات والسياسات العامة الداخلية والخارجية للدولة الأردنية هو الحفاظ على استقرار الدولة ، وضمان بقاء الحكومات دون معارضة فاعلة ، وليس بناء الدولة الأردنية على أسس ديمقراطية حديثة، وهذا المفهوم قاد من خلال التطبيق العملي الى تبني +ثلاث مسارات بالنسبة للحكومات الأردنية المتعاقبة :

الأول : اعتبار ان الحلول السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحتى الأمنية هو نهج ناجح للدفاع عن الدولة ، وعن سياسات الحكومات التي قادت المرحلة السياسية .
الثاني : النظر الى قضية تحسين الأحوال لمعيشية للمواطنين والارتقاء بأحوالهم باعتبارها مقايضة سياسية من المتوقع في مقابلها ضمان الولاء السياسي ، وياليت ان الحكومات المتعاقبة نجحت في تحقيق ذلك ، لكانت قد خففت من حجم المشكلة الاقتصادية والاجتماعية التي نعيشها اليوم .
الثالث : في مرحلة تالية ، اتخذت هذه المقايضة بعدا في منتهى الخطورة. فقد اتضحت هذه المقايضة شكل التحالف بين الدولة و قوى وجماعات محسوبة على أجندات مشبوهة ” كأبطال الديجتال ” ، التي لا تعرف الف باء التاريخ الأردني ، والأسس والمرتكزات التي يقوم عليها ، وأبجديات العمل السياسي الاحترافي ، ولا تؤمن بالولاء للدولة الأردنية بشكلها الحالي ، وفكرها هو فكر تفكيك وهدم للدولة والمرتكزات التي تقوم عليها .

هذه المقايضة لم تؤدي الى دعم الدولة الأردنية ، وأكسبتها استياء شعبيا، لكن هذا كان على حساب بناء الأردن ، وترسيخ مقومات وأسس بقائها الدولة .

ثالثا : عجز النخب والمؤسسات التمثلية عن أداء دورها و بلورة صيغة توافقية مع الدولة للوصول إلى الحل الوسط ، وانتشال الأردن مما يعانية ، في ظل تخبط سياسي مزمن ، وغياب وجود مبادرات رسمية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ، وبتنا أمام أزمة خطيرة هي “ازمة الشرعية والثقة “، والمقصود بها هو أزمة شرعية الانجاز ، وعقدة الثقة بالحكومات المتعاقبة وفي علاقتها بالمجتمع ، حيث أن جوهر أزمة الدولة الأردنية أنها قد عجزت عن ان تفرض نفسها باعتبارها موضع الولاء الأكبر الجامع للفرد والمجتمع، من خلال افتقارها وعدم توسلها بالوسائل والسبل التي تُخرج الناس من” عنق الزجاجة ” ، وتستطيع أن تقويها أمام الناس ؛ ولهذا، حدث ما شهدناه في السنتين الأخيرتين من ظهور الاحتجاج إلى السطح كأحد وسائل التعبير الأساسية ، والذي هو بالأساس النتيجة طبيعية للاستراتيجيات الحكومية التي أفزت من خلال سياستها حالة من التطرف الاجتماعي غير المسبوق في الأردن .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. مقال يبين تفاصيل جدا مهمه لما يحدث في مجتمعنا،
    سلمت دكتور ،كل عام وانتم بخير.

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى