من دمشق محمد العداربة / ابتسام حمدان

من دمشق محمد العداربة

رجل ذو سمرة في الوجه زادها العمل تحت الشمس سمرة وإعياءً، وأسرار في سراديب جبهته العريضة، ووجهه الشاحب مليء بالقصص والحكايا. فلسطيني قد شهد الهجرة والفتنة وفقد الأحبة وكدح لقمة العيش. لا يزال يعيش في كنف نضال هزيل. يحب العواصم العربية جميعها لكنه يحب القدس أكثر. كان قد تناول غداءه ووضع “فرشة” اسفنجية ومُتكأ ليمارس طقس من طقوس الحنين، والجرعة اليومية من أخبار يتمنى أن تحمل يومًا شيئًا يدخل السرور على قلبه. يفتح المذياع على “صوت فلسطين من دمشق” كعادته كل يوم، ينتظر هذه الجرعة من الشوق في أغاني “ابو عرب” “وفرقة العاشقين” “وفرقة بلدنا” وغيرهم. يحدث نفسه: “كلماتهم كالرصاص قوية واثقة، وأصواتهم صادقة، آآآآآه! كم أشتاق لرائحة الزعتر في جبال فلسطين وقطاف والزيتون ورائحة برتقال في حيفا”.
لا يزال المذياع على صوت فلسطين من دمشق، يُدمنها لأن روحه تعلقت باسم فلسطين فيحب ذلك الصوت الذي يتكرر على مدار اليوم”إذاعة فلسطين من دمشق” الذي يليه أغنية فيروز”سلامي لكم يا أهل الأرض المحتلة… يا منزرعين في منازلكم”. تنهيدة تخنق حنجرته، على “المنزرعين في منازلهم” ليته لم يغادر ليته لم يهاجر. يُخرج من جيب ثوبه علبة سجائر ويتناول سيجارة ويضعها في فمه، ويعيد العلبة إلى جيبه . يشعل عود ثقاب بينما توقف بث أغنية “كاتب اسمك يا يمة على كعب البارودة”، وبدأت موسيقى بعرفها، تنبيء “ببيان هام”. فتح عينيه وأذنيه لأن الخبر سيكون مهمًا بلا شك. رغم أن أخبارهم دومًا ذاتها “قام بالعملية وقضى شهيدًا، قتلى في صفوف العدو واستشهاد مُنفّذ العملية، اشتباك مع العدو واستشهاد البطل الفلاني من الفصيل الفلاني” يتمتم بصوت هزيل: “يبدو أن الطريق لهؤلاء بلا رجعة، كُتب عليهم ألا يعودوا!!!” لكنه لا يقاوم الاستماع للبيانات اليومية. يلقي بعود الثقاب بعد أن يطفئه في حالة ترقب يهابه كثيرًا فله ابن “فدائي” صاحب قلب شجاع. يمسك بسيجارته التي لم يشعلها بين أصابعه ويستمع للبيان. بصوت حماسيّ كبير يتلو المُذيع الخبر:
جاءنا البيان التالي:
“قام المناضل البطل محمد هديب من قرية الدوايمة قضاء الخليل بتنفيذ عملية في الداخل الاسرائيلي مما أسفر عن استشهاده وإصابة أحد جنود العدو”
هنا إذاعة صوت فلسطين من دمشق. وتبدأ الأغاني التي تعظّم الشهداء ودماءهم…”يا أم الشهيد زغرتي…. الموت ولا المذلة”
يلقي بظهره مستندًا الى الجدار، تخالطه مشاعر دخيلة هذه المرة، لا يستطيع تحديدها، هل يفرح ويقول كما يقول “الختيار” لن ندعهم يناموا بأمان. أم يحزن لموت الشاب الذي أوصله بالأمس الى الحدود، ودّعه إلى سوريا ومنها إلى لبنان وأخيرًا ليلقى حتفه مقابل “إصابة واحدة في جند العدو ” الله أكبر. ينظر إلى سيجارته التي لم يشعلها وينظر إلى ذلك الأفق، لتلك السهول الممتدة بين الأردن وسوريا.. ….عيناه قد ملأها القهر فلم يستطع أن ينتحب ولم يكن قادرًا على البكاء فقد جف الدمع ولم يبق الا أن ينتحب دمًا…..يطفيء المذياع ويشعل سيجارته يأخذ نفسًا عميقًا ويضرخ ……..لماااااااااااذا؟

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى