منجم الأسرار / مهند أبو فلاح

” منجم الأسرار “
مهند أبو فلاح

شكلت الحرب العربية – الاسرائيلية الرابعة التي نشبت في تشرين اول / اكتوبر سنة ١٩٧٣ احدى أهم المحطات التاريخية الجدلية بين أوساط الكتاّب الذين تحدثوا عن تلك الجولة العسكرية من الصراع العربي الصهيوني و الذين اعتبروها منجما للاسرار التي مازالت تتكشف تباعا بعد انقضاء قرابة النصف قرن عليها ، و قد انقسم هؤلاء انقساما حادا في هذا الصدد و لم تسلم السلطات السورية من سهام النقد التي صوبت إليها بالمقام الاول من لدن القيادة العراقية البعثية في بغداد على خلفية حجم الدور الذي قام به الجيش العراقي في هذه الحرب .

” تشارلز تريب ” الباحث الاكاديمي البريطاني الجنسية و المحاضر في قسم الدراسات الشرقية و الإفريقية في جامعة لندن يعد نموذجا صارخا لاولئك الكتّاب الذين وقعوا هم أنفسهم في تناقض حاد عند تناوله للمشاركة العراقية في هذه الحرب !!!!!! إذ يقول تريب في كتابه الذي حمل عنوان ” صفحات من تاريخ العراق المعاصر ما يلي : – ” وصلت الاتهامات المتبادلة بين دمشق و بغداد الى ذروتها في أعقاب حرب تشرين الأول / أكتوبر 1973 ، إذ ادّعت الحكومة العراقية بأنها قد استبعدت من التخطيط لهذه الحرب من قبل سوريا و مصر ، فيما أصرت الحكومة السورية على أنّ العراق قد رفض المشاركة فيها بسبب خوفه على حدوده الشرقية مع إيران ” .

بعد ذلك يردف تريب قائلا : – ” على أية حال فقد أرسل العراق فرقة مدرعة لمساندة سوريا في الجولان و لكنها وصلت في وقت متأخر من النهار حين أنتهت المعركة !!!!! و بدا أن القوات الإسرائيلية تزحف إلى دمشق ، و بالرغم من أن القوات العراقية أدّت دورا فعّالا و تكبدت عددا كبيرا نسبيا من الاصابات إلاّ أنّ السلطات السورية لم تعترف أبدا بهذا الامر علنا !!!!!!! و قد أتّهمها العراقيون بأنها أمتنعت عن مساعدتهم ، لا بل و دفعت بهم عمدا إلى كمين إسرائيلي !!!!!! ” .

مقالات ذات صلة

تناقضات تشارلز تريب البينة الواضحة حول المشاركة العراقية في حرب تشرين 1973 نجد نظيرا لها لدى الصحفي الصهيوني شلومو نكديمون الخبير المتخصص في صناعة القرار السياسي الإسرائيلي ، حيث نقرأ له في كتابه الذي حمل عنوان ” الموساد في العراق و دول الجوار – إنهيار الآمال الإسرائيلية و الكردية ” ما يلي : – ” في السادس من تشرين الأول 1973 فوجئت إسرائيل بالحرب التي شنها المصريون و السوريون ، و لم يكن العراقيون مطلعين على الخطة المصرية السورية ، و قد فوجئوا أيضا بنشوب الحرب ، بيد أنهم اعلنوا كالعادة بعد بضعة أيام من نشوب الحرب عن استعدادهم لارسال قوات للمشاركة فيها ، و لا شك ان الوفاء بهذا الوعد بالنسبة للعراق لم يكن سهلا أبدا ، لأن جيشها كان مشغولا في أماكن أخرى على طول الحدود العراقية – الإيرانية ، و امام الاكراد ايضا ” .

شلومو نكديمون يضيف قائلا : – ” في السابع من تشرين أول / اكتوبر 1973 شاركت الطائرات العراقية مع الطائرات المصرية في قصف اهداف إسرائيلية ، و بناءا على التسجيلات الرسمية العراقية لمسيرة الحرب ، فقد أرسل العراق إلى الجبهة ثلاثة أرباع سلاحه الجوي و ثلثي قواته المدرعة و خمس وحداته البرية ، و لا شك انه لم يكن بمقدور العراقيين ارسال كل هذه القوات الى الجبهة دون الموافقة الايرانية و التعهد بعدم القيام بأي تحركات عسكرية على الجبهة العراقية الايرانية ، فقد اعلنت ايران أنه و رغم علاقاتها الخاصة مع إسرائيل ، فإنها لن تعرقل توجه الجيش العراقي باتجاه الجبهة السورية الاسرائيلية !!!! ، أمّا الملا مصطفى البرازاني فلم يفرض اي تهديد في هذه المرحلة على وحدة العراق بل ابدى تضامنه مع الدول العربية و أمر جنوده بالامتناع عن اي مواجهات مع الجيش العراقي بل و بعث الى الرئيس العراقي أحمد حسن البكر رسالة اعرب فيها عن استعداده لاستئناف الحوار معه ” .

المواقف الايرانية و الكردية في تلك الفترة الحرجة و الحساسة من عمر الصراع العربي الصهيوني بدا انها جزء من مخطط اعده احد ابرز شياطين الصهيونية و الماسونية العالمية و نعني به هنري كيسنجر مستشار الامن القومي الامريكي ووزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك ، الذي رتب و أعد العدة لذلك الكمين الصهيوني الرهيب الذي تعرضت له القوات المسلحة العراقية خلال مشاركتها في حرب تشرين اول 1973 ، و هذا ما نستشفه ضمنا مما قاله كيسنجر نفسه في كتابه الذي حمل عنوان ” The White House Years ” أو ” سنوات البيت الأبيض ” ، حيث ينقل عنه نكديمون قوله : – ” إن القرار الخاص بمنع الأكراد من شن حرب على العراقيين إبان حرب 1973 قد قام على أساس اتفاق الأراء بين جهاز المخابرات الامريكي و جهاز المخابرات الايراني و الشاه ، لان الاكراد سيهزمون و قد وافقت جميع الجهات على هذا الموقف “

و يضيف كيسنجر اهم عرابي تلك المرحلة بلا منازع في كتابه ذاته قائلا : – ” لقد أتضحت صحة القرار الذي اتخذناه قبل مرور عام على اتخاذه ، حيث علمنا أن فرقة عراقية مدرعة واحدة شاركت في حرب 1973 ” و اذا كان كيسنجر قد عمد الى التقليل و الانتقاص من شأن القوات العراقية المشاركة في الحرب و عديدها ، فإن الجنرال موشيه باركوخيا الذي قاد الحرب ضد العراقيين في هضبة الجولان يختلف في الرأي مع كيسنجر ، حيث أقتبس شلومو نكديمون شهادته على تلك الحرب من خلال كتاب حمل عنوان ” المراكب الفولاذية ” حيث نقرأ ما يلي : – ” اشتملت القوة العراقية المهاجمة على الفرق المدرعة الثالثة و السادسة و لوائي مشاة و وحدات كوماندوس و بلغ قوام تلك القوة 500 دبابة و 700 ناقلة جنود مدرعة وثلاثين ألف جندي ، و لو أن هذه القوة تأخرت في الوصول ما بين 12 – 24 ساعة لتمكنت القوات الإسرائيلية من السيطرة على مناطق واسعة في عمق الاراضي السورية بإتجاه دمشق ، لقد تمكنت القوات العراقية من إيقاف تقدم القوات الاسرائيلية ” .

أمّا باتريك سيل كاتب سيرة حافظ الأسد الرئيس السوري الراحل و مؤلف كتاب ” أسد سورية – الصراع على الشرق الاوسط ” فيورد في كتابه هذا رواية أخرى للاحداث ، فبعد أن نقل عن الاسد قوله أن العراق كان أول بلد عربي أخبره عن عزمه على خوض الحرب و يضيف نقلا عنه ” أنه قبيل ساعة الصفر طلب من السفير العراقي في دمشق ان ينقل و على متن طائرة خاصة طلبه للمساعدة من الرئيس أحمد حسن البكر ، و بعد يومين طار إلى بغداد محمد حيدر عضو القيادة القطرية للحزب بطلب أكثر استعجالا و إلحاحا ” و يؤكد سيل استجابة العراق للطلب السوري فقد دخل جمجمة العرب الحرب في 10 – 10 – 1973 فأرسل إلى المعركة 100 طائرة و أكثر من 300 دبابة و حوالي 18 الف مقاتل .

كما ينسب سيل إلى محمد حسنين هيكل وزير الاعلام المصري الاسبق قوله في كتابه الشهير ” الطريق إلى رمضان ” أن العراق قبل اتخاذه قرارا بإرسال قواته لمساعدة سورية طلب من الاتحاد السوفييتي ان يضغط على حليف الكيان الصهيوني أي نظام الشاه الحاكم في طهران لكي يخفف من ضغطه العسكري على حدود العراق الشرقية “

زيارة محمد حيدر نائب رئيس الوزراء السوري الى بغداد و لقائه بنائب رئيس الجمهورية آنذاك صدّام حسين تطرقت اليها المصادر العراقية من خلال كتاب حمل عنوان ” صدّام حسين قائد و تأريخ ” للاستاذ صباح سلمان حيث كتب قائلا : – ” في حرب تشرين عام 1973 كان نائب رئيس الوزراء السوري محمد حيدر يزور بغداد و كان وقع خطواته ثقيلا و حالته النفسية تعكس صورة القلق الواضح و خلال مقابلته للقائد صدّام حسين كانت نظرات حيدر الزائغة قبل لسانه تحكي حالة الاوضاع في الجبهة السورية ” .

يتابع سلمان سرده لوقائع ذلك اللقاء قائلا : – ” إستهل المسؤول السوري كلماته الغائرة قائلا (( أن الجيش الإسرائيلي قد سحق جميع دباباتنا و تقدم بإتجاه دمشق ، و لم يبق أي نوع من الأسلحة لدينا إلا بعض أنواع الأسلحة المضادة للدروع )) و جاء رد ” الرفيق صدام حسين ” على نائب رئيس الوزراء السوري مقتضبا و لكنه عميق في معناه القومي و هو يقول (( الدبابات العراقية بأتجاهها إليكم و الطائرات قد وصلت إلى دمشق بالفعل )) ، فقبل ان ينقل محمد حيدر صورة الاوضاع المزرية على الجبهة السورية كان ( الرفيق صدام حسين ) قد دعا إلى إجتماع فوري مشترك على اعلى مستوى للقيادة العراقية ممثلة بمجلس قيادة الثورة و القيادتين القومية و القطرية لحزب البعث العربي الإشتراكي ليقرر مشاركة العراق بالحرب و بفعل قوي و بدور مقتدر انطلاقا من نظرته القومية و ايمانه بضرورة صون دمشق و الاراضي السورية من مخاطر الاجتياح الصهيوني ، لأن هذه الارض ليست أرضا لهذا الحاكم أو ذاك بل هي أرض عربية أسمى من كل المنازعات و الخلافات ، كما أن الشعب العربي في القطر السوري هو شعب شقيق و التهديد الصهيوني هو تهديد للوجود العربي بأسره ، هذا كله رغم قناعته و تقديراته الاستراتيجية التي كانت تلامس الدوافع و المقاصد التكتيكية لحرب تشرين لجهة كونها حربا للتحريك و ليس للتحرير !!!!!

على أية حال فإن زيارة محمد حيدر لبغداد تبعتها سلسلة من الأحداث الدراماتيكية المتسارعة حيث يقول باتريك سيل في كتابه الآنف الذكر ” أن القوات العراقية قد تكبدت خسائر فادحة في أول إشتباك لهم مع الإسرائيليين في الثالث عشر من تشرين الأول / أكتوبر ” و هذا ما يشكل إقرارا ضمنيا و إشارة مبطنة إلى ذلك الكمين الذي تعرضت له القوات العراقية خلال هذا الصدام المباشر مع العدو الصهيوني ،و بالرغم من ذلك يؤكد مؤلف كتاب ” أسد سورية – الصراع على الشرق الأوسط ” ان القوات العراقية قد تمكنت و بالإشتراك مع لواء أردني دخل على خط المواجهة في 14 – 10 من تقوية الطوق السوري المضروب حول جيب الاراضي التي احتلتها إسرائيل الى الشرق من خط الهدنة على الطريق المؤدية إلى دمشق .

إن الدماء العربية الزكية التي سالت في هذه الحرب الضروس ضد العدو الصهيوني تدفعنا دائما و أبدا لمواصلة مسيرة النضال ضد هذا الكيان الغاصب حتى تحين لحظة الحقيقة و يتجسد الوعد الالهي لهذه الامة المجيدة نصرا مؤزرا يعبد الطريق و يمهد الاجواء أمام إشراقة شمس الحرية العربية على كافة أرجاء الكرة الأرضية .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى