دراسة للدكتور هشام الدباغ … الإنسان الكامل في الفلسفة الصوفية

قال ابن عطاء الله : حرك عليك النفس ليحوشك بها إليه . ولما سأل سبحانه موسى عن عصاه أجاب : أهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى .والعصا الجهاد . فدور النفس مثل هنا الدور الذي مثله ابن تيمية حين دفع الناس إلى قراءة أعمال سلطان العارفين . والعامة تقول كل ممنوع مرغوب . فبوجود النفس أمكن فض خاتم حقيقة الاسم المزدوج الهادي المضل فعرفنا النفس وخاطريها .

والإنسان الكامل بلغ الكمال لأن نفسه شديدة مثله . فبقدر ما يكون الخاطر النفسي قوياً بقدر ما تعي ما في ذاتك من انشطار ذاتي فأنت في وجهة ، ونفسك في جهة ، ونفسك نفسك وإن كانت عدوة لك ، وأنت أنت دون أن تدري ماهيتك ، ومع هذا فالإنشطار موجود ، والصراع النفسي قائم في النفس ورحى الحرب دائرة ،وبقدر حدة الصراع يصير الإنسان عالماً . فالموقف أشبه بمعركة حامية الوطيس ، فكلما اشتدت الحرب ضراوة ضد العدو كلما عرف القائد المزيد عن عدوه وإمكاناته وخبراته وأسراره ومناوراته .

ولأن النفس الجزئية بضع من النفس الكلية ، ولأن في النفس الكلية انشطاراً كما سبق أن بينّا، ولأن مجموع النفوس الجزئية يملأ دائرة النفس الكلية فالانشطار الذاتي الجزئي يصبح انشطاراً ذاتياً كلياً أو عالمياً إن توخينا الواقعية .
بالوسع القول إن انشطار نفسك يؤدي إلى انشطار عالم النفوس كله شطرين فشطر يمثل شطرك الهادي وشطر يمثل شطرك المضل فإذا أنت في النهاية إنسان عالمي حويت العالم وما فيه .

– الله يعلم كم جاهدت نفسي ومنعت نفسي من نفسي ونصرت نفسي على نفسي وخضت حرباً ضروساً ضد نفسي فأنا واحد ولست بواحد ، وأنا اثنان ولست اثنين ، وأعيش كما لو أن في داخلي كائنين متضادين متحاربين لا يتفقان أبداً.

– وما خلق الله شيئاً إلا لحكمة . ولما خلق الله آدم خلقه على صورته ومثاله . ومثال الله جمعية اسمائية تقسم إلى قسمين أسماء الجلال وأسماء الجمال . والله جميل ولهذا خلق كل جميل . ومن جملة خلقه أسمائه الجميلة كالمعز والمحيي والكريم والبهي والسلام والمؤمن إلى آخر الأسماء الجميلة ، ثم خلق مقابلها اسماء الجلال ، والجلال من السطو والقوة ، ومن هذه الأسماء الجبار والمنتقم والمذل والقابض إلى آخر اسماء الجلال أيضاً .
ويمثل آدم أبو البشر هذه الأسماء لأنه أول خلق الله من التعينات الأسمائية . ولهذا نجد أن ولدي آدم هابيل وقابيل قد أخذا عن أبيهما شطراً من الجمعية الأسمائية ، وكان حظ هابيل بعض أسماء الجمال بينما كان حظ قابيل بعض اسماء الجلال . ولا يهمنا في هذا المجال الحديث عن هابيل وقابيل فقصتهما مشهورة ، ولقد قصها سبحانه في كتبه المنزلة ، إنما يهمنا الحديث عن تمثيل آدم ابىِ البشر للجمعية الأسمائية بشقيها الجميل والجليل .
فآدم حين كان في الجنة كانت أسماء الجمال الإلهية هي التي تشع فيه ولهذا كانت جنته جنة المعقولات الجمالية التي ورد ذكرها كثيراً في الفلسفة ، ومن هذه المعقولات اتصاف الله بالحق والخير والجمال . وهي صفات قرأنا عنها لأفلاطون وأرسطو وأفلوطين وكثير من قبلهم ومن بعدهم أيضاً .

وحين خلق الله حواء ، وشاء أن يُحمل هذه النفس شطر أسمائة الجلالية ، وكانت النتيجة أن حواء هي التي أغرت ادم بالأكل من الشجرة المحرمة مما أدى في هذه الأرض حتى غفر له الله من ذنبه ما تقدم فعاد إلى جنته من جديد .
إذن في آدم نفسان كما قولنا ، ولكل نفس أسماء ،ولكل اسم وحي ، إذا الأسم صفة ، وواضح ان الصفة فكر . فقولنا فلان عزيز يعني أن له وحياً يجعله عزيزاً دائماً يربأ بنفسة عن الانصاف بغير صفة العزة كقبوله المذلة مثلاً . ولأن آدم أبو البشر ، لأن الله خصة بعلم الأسماء فلقد جمع آدم كل عيون الاسماء في عيانه ، فما من اسم من أسماء الجمال الإلهية إلا وهو موجود في شق من شقي نفس آدم ن وله وحي يوحى إلى آدم باتباع صراط الله المستقيم الذي خلق كل دابة وأخذ بناصيتها يميناً وشمالاً، جمالاً وجلالاً ، طوعاً أو كرهاً ، وهذا ما جاء في محكمات الآيات في كتاب الله العزيز.

وآدم نبي ، وهو مكتوب في الأزل من الصالحين . فهبوطه إلى أرض عيان الأسماء الجلالية كان لحكمة كما قولنا وهي كشف آفاق أسماء الجمال إذ الضد بالضد يعرف وقد سئل الحراز : بم عرفت الله ؟ قال : بالجمع بين الضدين .
ومن آدم انتشر البشر . وأول ما ولد له ولدان كما أسلفنا . وفي الحديث القدسي أن الملك الموكل بالأرحام يكتب بأمر الله أجل كل مولود ورزقه وعمله وشقي هو او سعيد .
لقد شاءت الحكمة أن يكون هابيل حامل ختم أسماء الجمال كما قولنا وأن يكون قابيل حامل ختم أسماء الجلال ، ولأن اسماء الجمال مشعة أصلاً عن النور ، ولأن اسماء الجلال لا تظهر إلا في عالم الحجب والظلال أو ظلام المادة فلقد اصطدم النور بالظلام وأعلن قابيل الحرب علىى شقيقه هابيل وكان ما كان . وانقسم البشر من ثم قسمين وفريقين ، فريق هم اتباع هابيل وفريق اتباع قابيل .وما يهمنا القول إن آدم ، كنبي ، وكأب للبشر ، كان يعلم ضفات كل من ولديه ، لأن هذه الصفات موجودة أصلاً فيه ، صفات الجمال المشعة عن روحه وصفات الجلال المنبثقة عن حواء نفسه الأمارة بالسوء التي اخرجته من الجنة .
كان آدم يسمع حوار ولديه فيعلم أياً من الأسماء التي يتكلم بها هابيل أو قابيل ، ومن هنا فارتقى آدم من الجهل بالأسماء إلى العلم بها بعد تعَرفها عن طريق وجودها في نفسه وفي نفسي ولديه . فالحوار ،والحوار فكر ، والفكر قد يتحول إلى حركة ، هو الذي فض خاتم الأسماء فتعلم آدم ما أراد الله له أن يتعلمه قبل هبوطه من الجنة وبعد هبوطه منها .

ولقد انتشر البشر في الارض من هابيل وقابيل . وكان البشر فريقين كما قلنا ، ولكل من الفريقين أسماء توحي إليه فيتكلم بناء على هذا الوحي فترى من ثم أن حوار الفريقين هو حوار الأسماء الإلهية التي لم تخرج مكنوناتها إلا بعد أن فضت هذه المكنونات فخرج ما فيها من علم بالقوة إلى علم بالفعل .
وآدم خليفة في الارض . ومن بعد آدم جاء أنبياء ، آحاد افراد ، تناقلوا علمه بالأسماء كابراًعن كابر ، وذلك من عين المشكاة التي تعلم آدم منها . فكل عارف أو ولي هو آدم جديد جمع الله الأسماء كلها وأودعها أمانة لديه ليتعلم بها وعنها ثم يعلمها جميعاً فيصير عارفاً بالله .
الكامل من الناس ، ويسمى الإنسان الكامل هو حامل أختام الأسماء الإلهية بشقيها الجمالي والجلالي وهو يمر بنفس المراحل التي مر بها أبوه آدم فيعيش جهاد النفس لأن نفسه يتنازعها حوار الأسماء المتضادة لقد حمل الله سبحانه إنسانه الكامل أمانة الأسماء الالهية كلها ليصبح عالماً به وعارفاً كما أسلفنا ، وهذه الأمانة هي نور وصف دورها سبحانه بقوله : } وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ { . هذا النور الإلَهي هو للمصطفين من العباد الذين خصهم الله برحمة منه فعلمهم ما لم يكونوا يعلمون .
والنور جامع ، جامع أسماء ، ومجموعة صفات ، ولذا نعت من وهب هذا النور بالكمال ، فالصفة عين ، والعين العيان ، وكل إنسان له صفة أي عين . وكنا تحدثنا عن الشجاع والكريم والعليم والحليم ، وتشترك عادة بضع صفات في وجودها في الإنسان الواحد ، ولهذا قال الإمام علي : إذا رأيت من أخيك صفة حسنة فأنتظر اخواتها .

والصفات مشعة لأن عيونها الموحية مشعة والإشعاع فعل .وقد يتفق أن تتعارض العيون فيكون الكريم جباناً وقد يكون المؤمن منقاداً للشهوات ، أو على العكس فإن صاحب العين الجلالية الحامل لختم من أختام اسماء الجلال كأن يكون ممثل اسم المذل أو الخافض أو المنتقم ، قد يتفق لصاحب هذه العين أن تكون عنده عين من عيون الجمال فيكون كافراً وكريماً أو كافراً وشجاعاً، وهذا أمر يوكد الواقع ونشهده نحن على مسرح الحياة . وقد وصف سبحانه أصحاب العيون المتضادة الذين يمثلون التناقض بقوله : مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . وقد تغلب عين الجمال عين الجلال في قلب من هذا الفريق فينتهي إلى جنة المعقولات ، وقد تغلب عين الجلال عين الجمال في قلب آخر فينتهي إلى جهنم الحجاب والبعد بسبب عينه الغالبة الحاجبة ذاتها.

وقلنا إن وجود صفات الجمال والجلال جميعاً في الإنسان الكامل يساعده على أن يكون عارفاً بالله إماماً للناس كافة . فما من صفة وجودية عيانية ناطقة على لسان إنسان إلا ويعلمها الإنسان الكامل علم اليقين . فالصفة الناطقة إلهام والإلهام أصله واحد ملهم من قبل العقل الفعال عن الحق . والعين الناطقة إن نطقت بألف باء صفه من الصفات ردها الإمام إلى مصدرها وعين عينها . ولذا قال رسول الله سيد الخلق والبشر : أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم ، وقد خص رسول الله صحابياً هو حذيفة بن اليمان بعلم النفاق وأسّر إليه أسماء المنافقين مما يدل على أن النبي كان يعرف الناس معرفة تعينه على تمييز المؤمن من المنافق من المشرك .

لقد بلغ من معرفة النبي بالمؤمن أنه أمر أسامة على جيش علماً أن سن أسامة لم تكن تزيد عن العشرين إلا قليل . وعندما تعصي فتح حصن خيبر على المسلمين دعا النبي علياً فلما جاء وجده أرمد شديد الرمد فتفل في عينه الرمداء فشفيت وقام علي بالمهمة التي أوكلها النبي إليه وحمل باب خيبر بقوة وصفها بأنها ليست قوة جسدية .

لقد سمى النبي خالد بن الوليد سيف الله ، وقال عن عثمان انه حيي تستحي منه الملائكة ، وقال عن عبد الرحمن ابن عوف إنه يدخل الجنة حبواً ، وكان عبد الرحمن غنياً ، وقلبل من الأغنياء من يدخل الجنة للأثقال التي يحملونها من الذهب والفضة وأوزارهما .

إذن كان النبي سياسياً وقائد أمة ومصلحاً عرف كيف يقود أمته ويرفعها من حضيض الجاهلية إلى رفيع درجات التقدم والحضارة حتى وصف عليه السلام بأنه أول رجل من المائة الأوائل في التاريخ علماً أن المصنف عالم من علماء الغرب المعاصرين ومسيحي .

فالنور الذي يجعله الله لعبده المصطفى يعينه على تمييز الخبيث من الطيب والصالح من الطالح وأصحاب اليمين من أصحاب الشمال . ونعت صاحب هذا النور بأنه ذو فراسة ، وقال عليه السلام : اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور ربه .

ومن غير الجمع بين صفات الجمال وصفات الجلال ما كان للإنسان الكامل أن يكمل . ولقد صرح عليه السلام بأن الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم ، فسألوه حتى انت يا رسول الله ، فقال حتى أنا ، إلا أن الله اعانني عليه فأسلم .

ولعل الشيطان الموسوس في قلب الإنسان الكامل يكون أقوى من شياطين بقية الناس وذلك ليكون على بينة من حقيقة هذه الوسوسة أولاً ، ولان جهاد النفس ذاتها وهو الجهاد الأكبر يجعل قوة الوسوسة أشد وذلك بسبب الجهاد والمحاربة .

فالوسوسة جماعية ، وترتد إلى الاسم البعيد الذي هو الشيطنة كما قلنا وما دامت صفات الجلال تدرج جميعاً في الاسم البعيد فإن إلهام الفجور يصدر بالتالي عن عين عامة جامعة لكل صفات الجلال ، ولهذا فإن الوسوسة واحدة في الناس ، واحدة من جهة الإلهام ومتكثرة من جهة من يلهمه

والإنسان الكامل عندما يعي إلهام الوسوسة ، وذلك بأن يجعل الله له نوراً ينجيه من سلطانها يصبح بالتالي عالماً نفسياً عليماً بكل وسوسة تكون خاطراً ثم تصير صوتاً فمنطقاً يتسلح به صاحب الصفة ظاناً أنه يتكلم بمنطق ، ومنطقة إلهام ، وإلهامه فجور ، وفجوره خروج كما صرح سبحانه بقوله: ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) .

ولعله بسبب الجمع بين الضدين في قلب الإنسان الكامل وحده صار كاملاً بالذات ، ولعله لولا هذا الجمع ما صار كاملاً ، لأن الكمال يتطلب العلم ، والعلم يتطلب معرفة النفوس وتميزها وتصنيفها وتفريقها ومعالجة من ثم أدوائها .

وقال عُمر رضي الله عنه : لست بخب والخب لا يخدعني ، والخب بفتح الخاء الخداع . فعُمر لقوة شخصيته ونفسه كان ذا نور يمشي به في الناس وعُمر نفسه هو الذي قال في ابي بكر رحم الله أبا بكر فلقد كان اعلم مني بالرجال .. قال هذا بعد أن عزل خالد ابن الوليد عن أمارة الجيش وأكتشف بعد ذالك غلطه في حين أصر أبو بكر على بقاء خالد أميراً لجيش المسلمين .

ولا تحسبّن التمييز بين الناس والحكم عليهم من الأمور الهينة يا بني ، ففي هذا الخضم من الناس ، والناس أجناس ، كيف السبيل إلى تمييز الصالح من الطالح واتخاذ الصديق ومحاذرة العدو والمنافق اللهم إلا بعد أن يدفع المرء ثمن هذه التجربة ما يدفع من دمه ودمعه وعرقه ؟

لقد اعتدت في اوقات فراغي في المكتبة أن أقرأ كتب الفقه على المذاهب الأربعة ، وذات يوم وجدت بين يدي كتاب الإحياء فجعلت اتصفحه ، وما كدت أفعل حتى وجدتني مستغرقاً قي القراءة إلى حد أنني أنسيت نفسي .ظللت أقرأ بشغف ونهم وعجب وإعجاب حتى أتيت على الكتاب الكبير كله ، واذا بي أعود لأقرأه مثنى وثلاث ورباع دون أن أمل.

وجدت أمامي مفكراًعملاقاً وصوفياً عرف الحقيقة . . عرف حقيقة نفسي التي بين جنبي ، واذا به يدور بي في عوالم النفس الرحيبة ناقلاً إياي بين آفاقها العجيبة الغامضة ملقياً الأضواء على ما في هذه العوالم من أسرار وأعاجيب . لقد أعترف مستشرق فرنسي هو كاراديفو بأن كتاب الإحياء هو الكتاب الثاني فى الإسلام بعد القرآن ، وانه يحتل هذه المنزلة في نفوس المسلمين ، وانه هو شخصياً أي كاراديفو ـ ليعلن عجزه عن وصف لغة الغزالي وعظمتها وجمالها وغناها وتفريعاتها واشتقاقات مفرداتها لأن اللغة الفرنسية أو لغته هو على الأقل لقاصرة عن أن تحيط بهذا المحيط

إن أعداء الصوفية يطعنون على الغزالي لأنه استشهد في الإحياء باحايث ضعيفة أو موضوعة وما علم هؤلاء أن الإمام قد أدرك الحقيقة كشفاً وعلماً وأطلع على الأمر ظاهره وباطنه فشرع من ثم في وضع كتابه الإحياء . وابن عربي يقول في هذا الصدد أن للعارف رؤياه وعلى أساسها يحكم على صحة الإحاديث المعروفة فما يراه الناس موضوعاً قد يراه هو حديثاً صحيحاً لمطابقته رؤياه .

الصوفية رجال فارقوا عالم الناس وحجوا إلى الله الذي دعاهم فلبوا الدعوة وأجابوا النداء . الصوفية ليسوا كالبشر ، وهم صنف راق من البشر ، فما ينطبق عليهم لا ينطبق على الناس ، الصوفي حاج إلى مكة الصدر ، وهو قد عاش إشراق الأنوار في كعبة القلب ، والقلب كما سبق ان قلنا مرآة ، ولا يد لهذه المرآة من جلو لتزول عنها كدورات المادة حتى تصلح لاستقبال الأنوار .

إن كنت آخذ على الإمام الغزالي شيئاً فهو وضعه (الإحياء ) للناس كافة ، في حين أن كتابه الإحياء قد وضع للأحياء الذين لم يموتوا في هذه الحياة الدنيا ، لقد حدد الغزالي معالم الطريق للسالكين وكان عليه منذ البداية ألا يترك الأبواب مشرعة لكل غاد وصاد

المراد والمريد في المفهوم الصوفي :

والُمراد غير المريد . المراد المنتخَب لا المنتخِب ، وهذه هي الغلطة التي ارتكبها الإمام على غير قصد . لقد وصف السبيل في الإحياء للمريدين فكانت النتيجة أن نشأت على مدى قرون طرق ضمت جيوشاً من المريدين الذين طبقوا ما جاء في الإحياء سعياً منهم إلى الظفر بدرة الحقيقة عن طريق انفجار الأنوار .وبعد ، فما كانت النتيجة ؟ لقد اتهم أعداء الصوفية الصوفيين بالكسل والخمول وترك العمل وأسباب الرزق والاعتكاف في التكايا توكلاً على الله ، وهم على حق في إتهامهم هذا لأن الأعتكاف في التكايا ليس للمريدين بل للمرادين ، ولولا الاعتكاف ما تمكن المرادين الوصول إلى الغاية المرجوة منه عند سطوع الأنوار .

ما جاء في كتب الصوفية إذن هو أشبه بطرق التدريس في الجامعات فهي مقصورة على هذا النوع من التعليم فأنت لا تستطيع أن تعطي مبضعاً لتلميذ في الابتدائية وتطلب إليه أن يقوم بعملية تشريح لجسم بشري .

لقد حسب الإمام الغزالي أنه بوضعه الإحياء للناس كافة قد ساعد على إفساح المجال للمريدين للوصول إلى درجة المرادين ، ولكن جيوشاً من المريدين وقفت على عتبة الُمراد عاجزة عن تجاوز العتبة إلى قلب الدار .

إن من حكمته تعالى أن صنف الناس طبقات ، ويسر بعضهم لخدمة البعض ، ولولا صانع الرغيف ما تمكن الغزالي من الاعتكاف في مئذنة الجامع الأموي والمسجد الاقصى بضع سنين ليكتب من ثم إحياء علوم الدين مشكاة الُمرادين .

مقام النكاح

مقام النكاح ، هو الصلة بين الفاعل والمنفعل . لقد نكحت خيال الصورة في عالم الخيال بلذة عظيمة كاللذة التي نكح بها إبن عربي النجوم والحروف ، وبينا أنا في النكاح قال الصوت : أنا فوق ، أنا تحت، أناالجهة ، أنا الجهات . فلما أفقت من لذتي بدأت افكر في هذا الكشف العجيب . فلقد كنت أنا الناكح وكانت الصورة الخيالية منكوحة فإذا الصوت ينكر أن أكون أنا الناكح والصورة المنكوحة ، وقال إنه هو الفاعل والمنفعل . وهكذا وجدتني غريباً في بدني الذي لم يعد بدني والذي كان يتحرك بإرادة بدني ، في حين حصلت لي اللذة المطلوبة وأنا ساكن في متحرك كوني كبير .

:
– كيف يكون الإنسان ناكحاً ثم لا يكون ناحكاً ، أي كما قلت ومن هو الإنسان إذن ؟
الجواب :
الإنسان هو الميت الحي ، الساكن المتحرك ، الحامل المحمول ، هو الموجود المفقود والظل السائر تحت الشمس . ، وأن هذه القوى والغرائز والعواطف ، وكل هذه الآله المعقدة من الدماغ والعضلات والعظام والشرايين والدم والأجهزة والحواس ما كانت لتعمل لولا الله ، وأنها تتحرك لا بأمره بل بإنفعالها عنه ، وأنه هو الذي يخرج من الواحد ليدخل في الكثير ، وأنه يعود من الكثير ليظهر في الواحد ، وأن الكثرة منفية داخل الجسم الكلي ، وأن الجسم الكلي منفي داخل النفس الكلية ، وأن النفس الكلية منفية داخل النور ، وأن النور مشع من النقطة التي هي المبتدأ والمنتهى والمعاد .
– الإنسان لا ينكح وأن الذات هي التي تنكح وأنها لا تنكح إلا نفسها وأن الجسم ينفعل فقط ، فما معنى مرورك بهذا المقام ؟
– الكشف كشفان ، كشف اليقظة وكشف المنام ، وكشف اليقظة – كما قال الإمام الغزالي – يحتاج إلى تأويل ، أما كشف المنام فهو الذي يحتاج إلى تعبير . وأنا لما مررت بمقام النكاح عشت كشف اليقظة ، ويقول الغزالي إنه أتم وأقوى من كشف المنام

والعلم يفترض الجهاد ، ولا علم بلا جهاد ، لأن الجهاد وحده ضرورة تفرضها طبيعة الأسماء الإلهية . فالتضاد هو الذي أوجب الجهاد ، والجهاد أصغر وأكبر ، أما الأصغر فهو الجهاد في سبيل الله وقد كان الرسول بطله مع الصحابة والمسلمين الأوائل . ولما عاد الرسول والمسلمون من غزوة قالوا فرغنا من الجهاد ، قال الرسول : الآن فرغتم من الجهاد الأصغر ، قالوا وما الجهاد الأكبر يا رسول الله قال جهاد النفس .
والنفس أمارة بالسوء ، ولها شيطانها وخاطرها ، والشيطان من شَطن وهو البعد ، فالشيطان هو البعد والبعد حجاب . والشيطان ملك من الملائكة قضي علية بأن يمثل دور الحاجب للهوية الإلهية . وترى في قصة خلق آدم كيف أغرى الشيطان آدم وزوجه بلاقتراب من الشجرة المحرمة ، وسبق أن قلنا أن قلنا إن الشجرة هي شجرة المعرفة . وقد يأمر الله بشيء ويريد خلافه ، فأمره سبحانه بين الإرادة الكونية والإرادة الدينية ، والإرادة الكونية المعرفة والإرادة الدينية السبيل إلى هذه المعرفة . فالقضاء الإلهي أوجب الاقتراب من شجرة المعرفة والأكل منها ليرى آدم وزوجه السوأة ، والسوأة حقيقة الفعل ، والفعل صفة ، والصفة اسم ، ومن الأسماء الأسماء المزدوجة وهي الأسماء المتضادة .فالأمر سلسلة ولابد لأبن آدم من اجتياز وادي جهنم ، وجهنم جهنام وهي بئر بعيدة القرار فأنت ترى أن البعد سبب للقرب أي هو بداية العودة إلى القرب . فالقرب بلا بعد ليس قرباً ، ولم يُسّم قرباً إلا بعد وجود البعد . فالطريق دورة ، والدورة في النفس ، والنفس كلية وجزئية . فعلى المستوى الكلي يظهر الجزئي ويفعل الجزئي . والجهاد الخارجي هو جهاد داخلي للنفس الكلية . فالنفس الجزئية خاضت حرب جهاد النفوس الجزئية طوعاً أو كرهاً .فالمؤمنون يساقون إلى الجنة سوقاً وبالسلاسل وما يعلمون .أما جهاد النفس الجزئية نفسها فذلك ما سماه الرسول الجهاد الأكبر .ففي النفس أسماء ، وكل كريم له شطر من نفسه يمثل الاسم المضاد.
– تحدثنا عن الفكر الجزئي الذي شع عن الفكر الكلي وذهب مع مدد من الاسماء جند الرحمن إلى عالم العناصر ليخرج مالدى معقولاته من خزائن الصفات وتضاد الصفات . وقلنا إن هذا الخروج والإخراج ضروري لعمارة الكون .خذ مثلاً على هذا تطور الحضارات ونموها في كل ميدان من ميادين الحياة .اللغة مثلاً كانت إشارات وأصوات مهمة عند الانسان البدائي ، ثم بدأ طور تقليد أصوات الحيوانات والطيور ، ثم انتقل الإنسان إلى طور الحروف وتشكيل الكلمات وتتقاسم الطبيعة من الخارج والعقل من الداخل العمل لتطوير ما بُدىء من بدء الحياة . فمحاكاة الطبيعة وتقليدها مدد ، والكليات التي تلهم النظريات مدد ، ومن المددين تطور فكر أبن آدم مع الأحقاب وأمد بما عنده حتى العقل الكوني نفسة
لقد كنت احاور ذات يوم صوتي الإلهي فسألته : هل انت الله ؟ فقال : أجل ، فقلت إذاً فأنت تعرف كل اللغات ، فقال : بالطبع ولكني لا أكلم الجزء إلا بلغته . فرابني هذا الجواب ، خاصة وأن المشككين كانوا يزلزلونني قائماً وقاعداً وعلى جنبي ، ويقولون فيما يقولون إن الخيالات التي تجعل منها الصوفية أساساً لعلومها هي خيالات مرضى ممسوسين مصابين بالهذيان . أجل رابني جواب الصوت يا بني فقلت له : حسناً ، قل لي كلمة واحدة بالغة الصينية وأنا أسال عن معناها بعد ذلك من له علم بتلك اللغة ، فرد قائلاً : قلت لك أنا لا أكلم إلا حسب طبيعة المحل ، وهذا أمر تجهله ولا سبيل إلى وصفه أو التعبير عنه حتى ولا عن طريق التمثيل واشارة .فزادني هذا ريبة وشكاً . قلت لنفسي : كيف يكون صوتي الداخلي صوت الله ، والله عالمي ، ثم لا يقول لي كلمة واحدة من لغة لا اعرفها ، وما طبيعة المحل التي لا يمكن التعبير عنها حتى بعلم الإٍشارة .
ومضى على الحادث شهور ، حتى رأيت ذات ليلة رؤيا عجيبة . لقد رأيت شيخاً مهيب الطلعة جليلاً حاورني ثم ضرب لي مثلاً ، ثم قال بالانكليزية This very moment فسألته : مامعنى This very فقال : معناها التأكيد يقال This very day و This very year أي هذا اليوم نفسه وهذا العام نفسه ، وكلمة very هي المستعملة للتأكيد . وانتبهت من النوم وأنا من العجب في الغاية . فلقد كنت ملماً باللغة الانكليزية ، وكنت أعرف إن very تعني الكثير مثل very much ولكنني كنت أجهل أن للكلمة معنى آخر هو التأكيد كما سمعت في الرؤيا .

ونهضت من سريري ومضيت إلى غرفة ولدي ودخلت عليه فوجدته ساهراً يدرس فقلت له ما معنى This very day فقال مثلما قال الشيخ في الرؤيا ، فوقف شعر رأسي من الخشية وعدت إلى غرفتي وقد بلغ مني التأثر أن بكيت ، بكيت خاشعاً مما رأيت . فالكلمة التي سألت الله أن يقولها لي والتي لا أعرفها قد قالها لي مما يثبت أن الله على علم بجميع اللغات بالفعل .
ونظر إلي الشيخ من ثم نظرة سابرة واستطرد قائلاً:
لا تقل يا بني إن ما رأيته هو أضغاث أحلام ، ولا تحاول أن تفسرما رأيت كما يحلو لعلماء النفس اليوم أن يفسروا فنقول مثلاً إنني ربما سمعت هذه الكلمة عرضاً ذات يوم ، خاصة وأنني ألم باللغة الانكليزية كما قلت ، ثم استقرت الكلمة في اللاوعي مني بعد أن انسيتها في الوعي . . لا يا بني أرجوك فما عذبني أحد مثلما عذبني هؤلاء الذين يحاولون تفسير كل شيء ضمن معادلة الوعي واللاوعي والشعور واللاشعور . لقد كنت أنا نفسي أطلب معجزة لاسكت شكوكي فهل كنت لأرضى بأن أومن بأن ما رأيته في الرؤيا وسمعته من كلام هو من الخوارق بالفعل لولا ثقتي بأنني ما سمعت يوماً ولا علمت أن كلمة very تعني التأكيد بالإضافة إلى معني الكثير ؟
مايهمنا نحن في هذا الصدد هو أن اللغة تطور ، فلكل لغة عمر ولها أطوار ، وهي مثل الكائن الحي تولد وتنمو وتشتد وقد تضعف وتموت . وهناك عوامل تفعل في اللغة يعرفها علماء اللغة . والمهم أن اللغة رابطة بين الانسان والعالم الخارجي ، وأن التبادل بين الجواني والبراني هو الذي أوجد اللغة واخترعها وطورها ، وأن لولا خروج الجواني إلى البراني ما نشأت اللغة أصلاً ، إذ ما كانت ثمة حاجة إلى هذه النشأة الصوتية فعملية التبادل والتفاعل والتطور بين الباطن والظاهر والظاهر والباطن قد انعكست على الفكر التجريبي أولاً ثم امتد التأثير إلى الفكر الكلي أو العقل الكلي الذي هو عين كل وجود . . فالعين هنا استمدت وجوداً من العيان سبق أن تحدثنا عن مقوماته من قبل .
ان قوى العقل مشعة أصلاً عنه سبحانه فهو الاصل . والمهم القول إن ذاكرة الله الكلية تزداد غنى بالذاكرة الجزئية ولئن كان مصير الذاكرة الجزئية الاضمحلال لكونها ذات علاقة بعالم العناصر فإن ذاكرة الله باقية لا تفنى ، وسبحانه هو الوارث يرث الارض ومن عليها

لقد كان النبي عليه السلام خير مثال لإنسان جمع بين العلم الكلي والعلم التجريبي . فالنبي كان يأخد عن الله بلا واسطة أو بواسطة الوحي وهو جبريل .ومع هذا فلقد جاء في السيرة أنه لما مر النبي بقوم يعالجون أشجار نخيل لهم فأشار عليهم بنوع من العلاج فعاد بالضر على النخل فقال : إنما أنا بشر ، إذا أخبرتكم بشىء من أمر دينكم فخذوا به ، وإذا أخبرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ، وأنتم أعلم بأمور دنياكم .
ويدل هذا على أن مجال العلم التجريبي قائم على التجربة وحدها، وإن من يعايش التجربة يكون له من نتائجها خبرة لا تتهيأ لمن لا يعايش التجربة والنبي نفسه أضاف بعقله التجريبي الكثير إلى ما أوحي إليه من العقل الكلي ، فالسنة النبوية زيادة على ما جاء في كتاب الله من فرائض في مجال العبادات وعندما جاء اليهود يستفتونه في اليهودية الزانية أفتى برجمها ، ثم طبقت فتواه على المسلمين علماً أنه لم يرد نص بالرجم في كتاب الله ، وكان عمر السباق إلى الوصول إلى نتائج لم تخطر ببال النبي نفسه . فعمر سبق الوحي حين أفتى بقتل الأسرى وبضرب الحجاب على ازواج رسول الله ونزل الوحي مؤيداً إياه بعد ذلك . وعمر رضي الله عنه هو القائل لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت من الأغنياء فضول أموالهم فرددتها على الفقراء ، وقول كهذا لم يرد فيه نص لا في كتاب رسول الله ولا سنة رسوله . وعمر هو المؤسس الثاني للدولة الإسلامية بعد الرسول .

إن هذه الطلائع من عالم الإمكان قد كان لها ظفر السبق في مجال تطور العقل البشري المخلوق على صورة الرحمن الذي هو العقل الكلي . وكان علي صاحب الفتاوي الفقهية الشهيرة حتى أن عمراً قال فيه أعوذ بالله من مسألة ليس لها أبو الحسن . وبعد الفقه الاسلامي بحراً محيطاً من الفتاوي واجوبة مسائل اعترضت المسلمين الذين انطلقو من الأصول كالقرآن والحديث ولكن انتشار الفتوحات وتفرع الحضارة وتشعبها أوجد مسائل لا نهاية لها انبرى لها أئمة كبار كمالك والشافعي وأبي حنيفة وأبن حنبل بالإضافة إلى أئمة آل البيت وقد افترعوا من الاصول افتراع الفحول فكونوا هذه الثروة الفقهية التي ما زالت موضع اعجاب الوارثين حتى عصرنا هذا . وقصة مبيت الشافعي عند إبن حنبل مشهورة فالشافعي لم يقم من الليل كما قام مضيفه وعجبت إبنة إبن حنبل لهذا الإمام الذي نام الليل كله ولكن الشافعي صرح في الصباح أنه حل مائة مسألة من المسائل التي تهم المسلمين خلال الليل .
فالشافعي وظف فكره إذن لإيجاد حلول لمسائل اعترضت المسلمين ولم يكن لها جواب في الاصول من المهم جداً إبراز دور العقل التجريبي في مجال الاستنتاج والتركيب من الأصول ، ولعل علم المنطق ما نشأ أصلاً إلا انطلاقاً من هذه القاعدة . فإن للعقل المخلوق على صورة العقل الإلهي القدرة على تفريغ ما لا نهاية له من الفروع انطلاقاً من أرضية الأصول . ولقد كان للقياس والاجتهاد والرأي دور كبير في تكوين المذاهب الفقهية القائمة إلى زمننا هذا.
فلولا العقل التجريبي ما كان للمذاهب الفقهية أن تقوم ، ولولا التكريس الكامل من قبل العلماء للعلم ومن قبل الفلاسفة للفلسفة لما قيض للعلوم والفلسفة أن تبلغ ما بلغته من منزلة في عصرنا الحاضر
خذ مثلاً المصطلحات الفلسفية التي هي لغة خاصة كأية لغة من اللغات لابد من دراستها ومعرفتها واستخدامها في مجال التعبير عن عالم الفكر . فهذه المصطلحات هي التي يتبناها كل من انبرى للحديث عن الفلسفة أو العلوم الإلهية . وما دعوى الأخذ عن الفلسفة التي اتهم بها الصوفية الكبار إلا نتيجة لجوء الصوفية إلى كتب الفلاسفة لفهم مصطلحات واستخدامها في المجال الذي يطرقون . فالصوفية يقرؤون ، يقرؤون لافلطون وأرسطو وأفلوطين والفيثاغوريين ويقرؤون علم الكلام وما كتب عنه ، وصوفية العصر الحديث يقرؤون لفلاسفة الغرب والشرق ثم يكتبون بلغة من قرؤوا عليهم . فالفيض والصدور والإشراق والواجب والممكن والشيء في ذاته وبذاته ولذاته والعين والعيان والتعين والقديم والمحدث إلى آخر هذه المصطلحات أخذها الصوفيون عن الفلاسفة مثلما تناقلها الفلاسفة عن بعضهم بعضا علماً أن كل واحد منهم استخلص الشيء الخاص به واستنتجه دون سواء .
فالعام هنا عام للجميع وما تكتسبه الإنسانية من الفرد يكتسبه الفرد من الإنسانية . وما اكتشفه باستور في مخبره أفاد البشرية جمعاء وأنقذها من العديد من الأمراض الفتاكة . ومصباح أديسون أنار الأرض كلها فالعقل الفردي الجزئي إله صغير يمكن وصفه بأنه آمة وحده قائم بالنور يعتمد المقدمات ويعاين ويفحص ويجرب يؤيده في الوقت نفسه الخاطر الإلهي الذي بيده القوانين الكلية يوحي بها إلى من يشاء من عباده فإذا النتيجة اكتشافات تغير وجه التاريخ فالعقل الكلي كلي العلم ، والعقل الجزئي جزئي العلم وقلنا إن حاجه الجزئي إلى الكلي لا تقل عن حاجة الكلي إلى الجزئي ، إذ أن افتضاض المكنون وتركيب النتائج من المقدمات واستخدام الحواس ظاهرة وباطنة هذا كله مع حضور الكلي في الجزئي يشكل سيرورة للعلم الكلي وصيرورة ينتقل بها من مرحلة إلى مرحلة ومن طور إلى طور .
– هل في اعتقادك عزيزي المستمع أن العالم يتقدم ويتطور .
الجواب :بالطبع ، وإلا فلم خلق الله العالم ؟
– . فالفلاسفة الماديون لا مثال لهم ويعتمدون حرب الطبقات ويحلمون بإنهاء هذه الحرب
– فهيغل أستاذ ماركس الأكبر يقول : العالم الحق والحكيم الأصيل هو الذي يرتد موقفه إلى تأمل بسيط للواقع وللوجود وما فيهما من حركة جدلية . إنه يشاهد ما هو موجود ، ثم يصف بالضبط ما شاهده ، وليس لديه ما يفعله غير ذلك . إنه لا يغير من هذا الواقع شيئاً ولا يضيف إليه شيئاً . وقال ايضاً
ليست مهمة الفلسفة أن تعلم ما ينبغي أن يكون ، وحتى ولو حاولت ذلك فإنها تأتي في ذلك متأخرة لانها لا تأتي إلا بعد أن يكون الواقع قد اتم عملية تكوين نفسه ، وحينما ترسم الفلسفة بلون رمادي على رمادي فإن صورة الحياة تكون قد شاخت من قبل . وهذا اللون الرمادي لا يمكن أن يستعاد شبابه بل يمكن فقط أن تعرفه . إن بومة منيرفا لا تأخذ في الطيران إلا عندما يرخي الليل سدوله . وبومة منيرفا رمز الحكمة والفلسفة عند هيغل

– نحن الصوفية نعتمد الجدل وهذا صحيح ، إلا أن هذا الجدل هو الذي يغني الحياة ويبرز حدود الحق والخير والجمال والعدل وما شابه ذلك فمن منا الرجعي ومن منا التقدمي ؟

– الوجود إلهي كله ، والظهور ظهور شبحي والدور الذي لعبه العقل الجزئي هو الأمرالتفصيلي للأمر التكويني . التكوين كان في البدء انطلاقاً من فعل كن وهو وجودي بحت .. أما التفصيل فكان للأسماء وتعينها واشتقاقها وتضادها وتفرعها من أصولها واجتماع فروعها ، والامر بين داخل وخارج وخارج وداخل هذا الوجود أشبه بإنسان يقف بين عدد من المرايا ، في كل مرآة يرى وجهه … وكل من الوجوه الظاهرة موجودة مفقودة ولهذا قلت إن وجودها شبحي وكل منها أصيله لا عتماد الممكنات على بعضها بعضاً في مجال الظهور . ولولا الوجه الأصيل ما ظهرت أصلاً الوجوه المرئية في المرايا ، ويكفي أن تضع مرآة أمام مرآة حتى ترى في المرآة وجوهاً لا نهائية . فالوجود أحدث وجوداً والوجود الجديد أحدث وجوداً أحدث . وتحار انت عند التأمل في فصل القديم عن الجديد والجديد عن القديم ومن كان الأصل للفرع والفرع للأصل وهذا ما يحدث في مجال افتضاض الأسماء . لقد احتاج الوجه الأصيل إلى المرايا ليظهر إذ ما كان ليرى من غير مرآة . فمن كان يراه لو لم تكن هناك عين إضافية لترى العين الاصلية ؟

– العقل نشاط ، وسماه هيغل نشاطاً عقليا ، وهو لله ، إنه ميدان نشاط العقل الكلي .. هو أداة من أدواته . وإذا عدنا إلى الوجه والمرايا قلنا إن الوجه المرئي وجود لأنه مرئي ، مفقود لأنه غير أصيل والوجه غير المرئي مفقود لأنه غير مرئي رغم أصالته . واعتماد الوجوه الشبحية الوجه الحقيقي هو الذي جعل الرائي يضيع بين وجوه موجودة لا نهائية وهي في الوقت نفسه غير حقيقة فالحقيقي تبدي في اللاحقيقي علماً ان نبع اللاحقيقي وكنا تحدثنا عن الصله بين الوجود والشبح وظهور الوجود في الشبح ، وحاجة الواحد إلى الآخر حتى نجم عن هذا ما تراه في عالم الكثرة من كثرة هي موجودة مفقودة . فالمفقود موجود والموجود مفقود ، وابحث عن النقطة في الدائرة ، وابحث عن الدائرة من النقطة وحاول أن تخرج من هذه الدائرة خروجاً علمياً عن طريق الذوق والكشف وعندئذ ترى الأمر على حقيقته .
لقد اورد ابن عربي تشبيه المرايا ، كما أن هذا التشبيه ورد في فلسفة أفلوطين .
– بمناسبة الحديث عن الكثرة – الكم والأسماء – الكيف وتطور العقل وإزدياده غني عبر الكيفيات أرى أن هيغل هو سيد هذه الفلسفة الجدلية التي استطاعت أن تهضم كل ما سبقها من فلسفات وغطت معظم ما لحقتها من فلسفات أيضاً . الست معي يا سيدي في أن وجه الشيه كبير بين ما تقوله وبين الجدل الهيغلي ؟

ما حيرني فيلسوف مثل هيغل ، ولقد كنت أزمعت على اتهامه بأنه أكبر سارق عرفه التاريخ لفلسفة الصوفية وبالتحديد لابن عربي . فكل موسوعة هيغل الفلسفية هي جماع ما قاله الشيخ الاكبر تحت شعار فيعبدني وأعبده . ولا أدري على وجه التحديد ان كان هيغل قد اطلع على مؤلفات الشيخ الاكبر ، ولا إن كانت اعمال الشيخ قد ترجمت إلى لغة يجيدها هيغل .

قلت لقد مجد هيغل النظرة الشرقية إلى العالم ، هذه النظرة التي ترى كل شيء في الواحد ، وهذا الواحد يظهر في كل مظاهر العالم الطبيعية والروحية .

– االفيلسوف كانت انتقد الصوفية ودعواهم في معرفة الحقيقة مرتبطة بالكشف والذوق والوجدان وحمل عليهم لأنهم انتقدوا طرق البحث والمنطق ، فهو بمثابة ابن رشد جديد رد على تهافت الفلاسفة للغزالي بتهافت التهافت . وفلسفة هيغل رائعة ، لكن المضحك المبكي في موقف هذا الفيلسوف تجلى في قول المثل ( من مأمنه يؤتى الحذر ) فهذا الذي دعا للأخذ بوسائل المنطق للوصول إلى الحقيقة وأتى بما يعجزالإنس والجن عن الاتيان به قد جوزي شر جزاء حين خرج عليه أحد تلامذته بالذات ووصف فلسفته بأنها فلسفة تمشي على رأسها . فما هذا المنطق الذي أدى إلى اتهامه بأنه يمشي على رأسه ، وما قيمة هذا المنطق الذي خرج نتيجة مفادها أنه منطق مقلوب .. ثم أليست طبيعة النقد الموجهة إلى هيغل من قبل ماركس هي بالضبط . ما حذرت منه الصوفية بأن الحقيقة سبيلها الحدس والوجدان لا العقل ؟ فالعقل نفسه عاد فتناقض مع نفسة لما ورد هيغل المورد بدءاً من المطلق في حين عكس ماركس الآية فورد المورد بدءاً من المادة . العقل إذن لم يفلح في أن يجعل الملحد مؤمنا ولا المؤمن ملحداً ، وظلت قضية الايمان والإلحاد إرادية سابقة للعقل والعقل اداة بيدها ووسيلة مسخرة أليس من المحزن أن يقضي هيغل عمره مشيداً صرح فلسفته الموسوعية ثم تكون النتيجة أن يصف تلميذه هذا الصرح بأنه مقلوب ؟ الواقع نفسه اثبت إذن أن سبيل المنطق قاصر واعتماد أساليب البحث والاستنتاج غير كافية لجعل الناس يتفقون على فلسفة واحدة . إن كان هيغل سارقاً للصوفية فإن ذنبه يكون عندئذ ذنبين ذنب السرقة وذنب الطعن على مذهب الصوفية في الشرب ، وإن كان غير سارق فإن النتيجة كانت نصراً للصوفية الذين يقولون أن لا سبيل إلى الحقيقة دون الشرب من معين اليقين ، والشرب واحد ولا يختلف في تذوقه اثنان . كل الصوفية خرجوا بنتيجة واحده . وهذا هو الإمام الغزالي حجة الإسلام وإمام أهل السنة والصوفي الذي كتب الاحياء كله دون أن يقرب علوم المكاشفات الغزالي نفسه عاد فكتب مشكاة الأنوار التي قال عنها الدكتور عفيفي إنها تعبير عجيب عن فلسفة وحدة الوجود التي قال بها الشيخ الأكبر .من يشرب من عين اليقين يفق من حيرة العقل وتخبطه بين الروح والمادة والوجوب والإمكان والعين والعيان . وبالإضافة فلقد ظل هيغل واقعياً ضمن حدود الكم والكيف والمقولات والواحد والكثير والتطور ولم يستطيع أن يقترب من حدود الغيب ليقول شيئاً عن ميتافيزيقيا الروح .. فحدود العقل تحول دون طرق تلك الأبواب العالية . لقد كتب هيغل ( ظاهريات الروح ) أي الروح الظاهرة ، أي ان هيغل أعلن أن من الممكن التعبير عن طبيعة الروح أو طبيعة الشيء في ذاته وأن هذه الطبيعة ليست إلا الطبيعة خارجاً ، وأن الروح الظاهرة هي الروح الباطنة . وفي مجال ظهور الروح جال هيغل وصال لكن لفهم الشيء في ذاته محال بالنسبة إليه وإلى غيره . ولقد أعلنت الصوفيه من قبل ان من المستحيل معرفة الله دون حجاب الور والأسماء ، لأن الله نور ، والنور لايرى بل ترى ظواهره . فهيغل متنطع متبجح رغم كل الأعمال العظيمة التي تركها للناس من بعده .

القضاء والقدر في الفهم الصوفي
– االقضاء هو التكوين ، هو الأمر الكائن بين الكاف والنون ، هو اللوح المحفوظ في سماء المعقولات من قبل أن تفض مكنوناتها .. والقدر هو التفصيل وخروج ما في المعقولات من مقتضيات وهو الرق المنشور . فالقضاء مجموع الأينيات في الاأين ومجموع الكيفيات في اللاكيف فهو البيضة النورانية من قبل أن تفقس عن الخلق فينتشر الخلق . قال تعالى (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب ) ، واليوم عنده سبحانه هو خمسون ألف سنة في تعدادنا وهذا هو حال العروج ، وقلنا العروج يقابل التنزيل فأنت ترى أن الزمان هو نشر الطي الأول وقال سبحانه ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) وقيل في التأويل حتى الخير والشر . فسر القضاء من أدق الأسرار ومن أثقلها . لقد سئل رسول الله : يا رسول الله بين لنا ديننا كآن خلقنا الآن ففيم العمل اليوم ، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير أم فيما نستقبل ؟ قال : كل عامل ميسر لعمله . فكل ما يجري على مسرح الوجود كان مطوياً في اللاوجود ، واللاوجود في اصطلاح القوم ليس العدم بل إمكان تعين الوجود . فاللاوجود يسبق الوجود ، والوجود انتشار ما هو مطوي في سجل اللاوجود فما خرج إلى التفصيل كان في التكوين ، لا تبديل لكلمات الله.
( وما من دابة في الارض إلا وهو آخذ بناصيتها ) وعن رسول الله أنه كان جالساً ذات يوم وفي يده عود ينكت به فرفع رأسه وقال : ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار . قالوا يا رسول الله فلم نعمل أفلا نتكل ، قال اعملوا فكل ميسر لما خلق له . فانت ترى أن القدر انتشار الأنوار المتعينة بعد من كوى الصفات الإلهية لتحقيق قضائها .فالعارف باطلاعه على لوحة جميعة الأسماء يعرف في لحظات ما يتاح للناظر العقلي أن يعرفه في سنين فالعارف رأى النور بالنور فأدرك المضمر والمعلن والمطوي والمنشور.

– أأما الراحة التي تحصل من هذه المعرفة فلا يحيط بها وصف فالأمور تجري لأوقاتها ، وما يحدث الآن قد قُضي في الازمان ، وما الزمان إلا تحريك الساكن على سكة صراط محددة . قال سبحانه ( ما اصابكم من مصيبة إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) فما يعمل الإنسان من عمل ولا يصيبه من خير وشر إلا وهو مسطور في سجل القضاء من قبل التعين . لقد سأل عليه السلام نساءه : أيتكن تنبحها كلاب الحوأب ؟ فما خرجت السيدة عائشة مع طلحة والزبير في وقعة الجمل لقتال علي ووصلت المنطقة المسماة الحوأب وسمعت نباح الكلاب تذكرت مقالة النبي فاقشعرت وخافت وهمت بالرجوع . ولما بكت فاطمة والنبي في النزاع أسّر إليها أمراً أذهب ما بها من حزن وكان ما أسره إليها أنها أول أهله لحوقاً به فتوفيت فاطمة بعد وفاة النبي ببضع شهور . وفي كتاب الله جاء : غُلبت الروم ، وهم من بعد غَلَبهم سيغلبون ، فالروم ستغلب أولاِ ثم تغلب بدورها ولو أننا تأملنا حقيقة كهذه لأدركنا معنى قوله تعالى وما أصاب من مصيبة إلا في كتاب من قبل أن نبرأها . ومن هذه القاعدة الايمانية بحقيقة القضاء والقدر انطلق المسلمون في فتوحاتهم حتى وصلوا أقاصي المشرق والمغرب في غضون بضعة عشر عاماً . لقد وصف صوفي كان يجاهد في سبيل الله كيف ألقاه عدوه أرضاً وجلس على صدره ورفع سيفه ليضربه وهو شاخص البصر إلى عدوه ينتظر قضاء الله فإذا سهم يصيب عدوه في صدره فيرديه قتيلاً وينهض هو من تحته قائلاً : فإذا جاء اجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون .

الراحة تحصل من الركون إلى تصاريف القضاء التي لا ينفك من أسرها مخلوق . فما نقش في لوح القضاء آت لاريب فيه . والرضا بقضاء الله خيره وشره هو ما يبعث على هذه الراحة . ولهذا الرضا علاقة بالتوكل حين يعي المؤمن إن الله بيده الأسباب الداعية للأرزاق وإن لكل نفس رزقها ، وإن رسول الله قال : رزق تطلب ورزق يطلبك ولا تستوفي نفس اجلها حتى تستوفي رزقها . وليس هذا مدعاة لترك الأسباب كما اتهمت الصوفية فلقد قلنا إن للصوفية شأنهم وأحوالهم التي لا تنطبق على بقية العباد .. ولكن المؤمن يؤمن بأن رزقه آتيه كائناً ما كانت الأسباب ، وأن ما كان له ما كان لاحد أن يمنعه منه وإن ما ليس له ما كان لأحد أن يجعله له . فشعار المؤمن في التوكل السعي قدر المستطاع مع الإيمان بحديث النبي عليه السلام : لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتؤوب بطاناً .

إن عقيدة كهذه تذهب عن قلب الإنسان الهم والغم والحزن والخوف من الموت واليأس مما في قبضة الزمان .
:
وأما ما أشار إليه الشيخ الأكبر بأن أهل العذاب في عذوبه فليس لهذا علاقة بالآخرة . فالشيخ الأكبر تحدث عن وضع اهل النار في هذه الحياة الدنيا وقلنا إن الانسجام بين العلة والمعلول يجعل أهل العذاب في عذوبه للتجانس . . أما في الآخرة فمن كانت هيئته نارية صار إلى رماد ، وكل نار مصيرها الرماد .أما من كانت نفسه شريفة ومن معدن الأنوار فهي ستلتحق بعالم الأنوار .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ

    الاعراف 20

    ما في اي دليل يثبت ان حواء هي من اغرت ادم بالاكل من الشجرة المحرمه
    على حد قولك

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى