.مكاتيب

[review]الأحد 25-4-2010

كنّا ممعنين في العاطفة، أحاسيسنا بكر، وأيامنا زاخرة بنا، ما الذي غيّرنا الآن..؟؟.
كل شهر كان موظف البريد يطلق زاموراً متقطعاً من درّّاجته النارية ليسلمنا في الموعد "رسالة من أخي المغترب"… لم نكن نعرف كيف نكافىء الساعي، كان يضيع الكلام من فيه أبي في كل مرة ..أحياناً كان يخرج من جيبه "باكيت" دخانه ويهديه للرجل "كحلوان"..وأحياناً يخبّىء باكيت مختوم لحين قدومه ويذكرنا "بالحلوان" ان كان غائباً ..كيف وهو يحضر رسالة من ابنه البكر الطالب البعيد البعيد البعيد..
"يُمّه رسالة" نصيح نحن الصغار …تنشّف امي عرقها بأكمامها ، وتجلس تحت الدالية…صمت ، سكون ،ترقب لنعرف ماذا في داخل المغلّف: "استنوا تا ييجي فلان" يحضر فلان؛ لا بد من حضور المعظم لتقرأ الرسالة…كنّا نتحلّق حول أفصحنا في تسميع النصوص، يقرأ ويعدّل ، يخطئ في التهجئة ومن ثم يعيد قراءة الجملة من جديد، لكنه يبقى أفضلنا على الإطلاق ..دموع ونشيج وأحياناً تنهيدة تكسرها نكته عند تلاوة أخبار الغائب فيختلط الحزن بالبهجة..كان يأسرني منظر الطوابع ،وتأسرني هيبة الرسالة بالخطوط الحمراء والزرقاء المائلة التي تحيط بمستطيل المغلف.. أختام مكتوبة بلغة أجنبية، وصورة لملكة أو قصر أو زعيم – أسطورة – أوروبي..
ترى كيف أخي هناك..أتخيّله يرتدي قبعة صوف وقفازات ومعطف ويخرج بخاراً كثيفاً وهو بطريقه الى البريد البعيد..موظفة شقراء استلمت الرسالة ختمتها وأخذت أجرها،هل هي متزوجة؟ هل لديها اطفال بعمري؟..ما اسم موظفة البريد؟..هل لديها "ماتور" كالساعي الذي يأتينا ..وكيف تقوده والطريق مكسو بالثلج؟..يقطع خيالي صوت "قارىء الرسالة" وهو يختم : وسلامي لأعمامي وأخوالي وجدتي وكل من يسأل عني…والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته…نرجع جميعاً للخلف مع الجملة الأخير كمن يُتخم من مائدة ، بعد ان ابتلع حصّته من الشوق للأخ الغائب…
كانت أمي تلمّ أطراف المغلف "المنزوعة" وتضعها داخله.. حتى القصاصات هي مقدّسة ومهمّة وان لم تحمل كلاماً أو حتى بصمة من الحبيب ،يكفي ان يده لمستها،حتى لو لم تلمسها، يكفي أنها رافقته في جيبه الداخلي من البيت الى البريد …
مكاتيب تتكاثر في "درج العائلة" ، كل مكتوب بشهر ..وكل شهر ينقص عمر الغربة ورقة "فولسكاب" ، ويكهل الشوق بحجم "ورقة فولسكاب"ايضاَ ..
**
قلت كنا ممعنين في العاطفة، احاسيسنا بكر، وايامنا زاخرة بنا: ألان يرسل لي أحد الأخوة"الغيّاب" رسالة قصيرة"مسج" يطمئن بها علي وعلى أمي..ولا أتذكر بوجوب الرد الا بعد منتصف الليل…يا الهي كم تغيّرنا!!!

ملاحظة في السياق:
* اكثر ما كان يدمع أمي ترتيب المكاتيب القديمة وقت الضحى واغنية هيام يونس "يا حبيب الدار" التي كانت تبثها الاذاعة الاردنية بشكل دوري..حتى انني أفكّر جديا بمطالبة هيام يونس بتعويض عما لحق بعيني أمي وعيون الأمهات جميعاً من أضرار..

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

مقالات ذات صلة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى