مستقبل التعلم والتعليم في الأردن

مستقبل التعلم والتعليم في الأردن
الدكتور محمود المسّاد

إن التقدم التكنولوجي المتسارع أصبح واقعاً معاشاً لا يمكن تجاهله، وأن مؤشراته التنبؤية توضح بأن خطواته المتزنة تسير إلى تأكيد حجزها للمكان المناسب لها في عالم اليوم والمستقبل، ومع هذا التغير السريع، ينبغي أن يتطلع التعليم إلى الأمام، ويأخذ بعين الاعتبار ما قد يكون هناك في الأفق التكنولوجي من أجل الإعداد الفعال للطلبة، ليعيشوا ويعملوا في مستقبلهم. وعليه، فإن واجب كل تربوي أن يدرك أن لديه دورًا تربويّا مهمّا ينبغي أن يؤديه بمهنية عالية، وأن المعرفة التكنولوجية والدمج التكنولوجي في هذا العصر لم يعودا خيارين، ولم يعد السؤال هو: لماذا ينبغي دمج التكنولوجيا، إنما كيف يتم هذه الدمج؛ وكيف يكون له أثر في تعزيز تعلم المهارات الأساسية كالقراءة، والكتابة، والحساب، وأن يكون مساهمًا في التمكن من امتلاك مهارات القرن الحادي والعشرين المتمثلة بمهارات ما وراء المعرفة كالتفكير الناقد، والتواصل، والتعاون، والإبداع؟ وذلك كله لضمان إعداد طلبتنا للحياة المعاصرة وأخذهم لمكانتهم في مجتمعنا الثري بالتكنولوجيا.
إن دمج التكنولوجيا في التعلم والتعليم لا يمكن توظيفها بنجاح في ظل عدم انسجامها مع الأهداف التعلمية العامة والخاصة، بل إن التكنولوجيا وما تتضمنه من مصادر تعليمية تعلمية مفيدة يمكن أن تكون فعّالة فقط، ثم النظر إليها على أنها مكون وجزء أساس في عملية التعلّم والتعليم القائمة على إطار نظري فلسفي تربوي ينسجم مع المعايير الخاصة بتكنولوجيا التعليم الوطنية والعالمية. إن توظيف التكنولوجيا في التعلم والتعليم بحد ذاته ليس هو هدف العملية التعليمية التعلمية، إنما الهدف من هذا التوظيف والدمج أن تكون التكنولوجيا عاملًا مساندًا ووسيلة لتحقيق عمليتي التعلّم والتعليم المنسجمة مع المعايير المحددة لتعلم القرن الحادي والعشرين.
وفي جلسة علمية حول مستقبل التعليم بمشاركة عدد من الخبراء، أثير السؤال الآتي:

ما هو شكل التعليم والتعلم المستقبلي في الأردن؟
أجمع الخبراء التربويون في هذه المجموعة على أن شكل التعلم في الأردن يسير نحو التغير باتجاه التعلّم المدمج. والتعلّم عن بعد (Distance Learning) بوصفه أحد أساليب التعلّم التي تتم بوساطة وسائل الاتصالات الحديثة وبصورة متزامنة أو غير متزامنة، في ظل تباعد كل من المعلم والمتعلم مكانيًا. أما التعلّم المدمج (Blended learning)، فيتم فيه المزج بين الفصول التقليدية (وجهًا لوجه) وبين الفصول الافتراضية. وأرى أن التعلّم المدمج، في ظل وجود أسباب تجبر على تبني التعلّم عن بعد، هو الأنسب في هذه المرحلة لمساعدة المجتمع والتربويين والطلبة على تقبل شكل هذا التعلّم ومن ثم تشكيل ثقافة قادرة على السير قدمًا نحو تبنيه.
ولمزيد من التوضيح نسلط الضوء على القضايا والتساؤلات الآتية:

أولاً: هل المؤسسات التعليمية مهيأة لتطبيق التعلّم الرقمي: التعلّم عن بعد أو التعلّم المدمج؟
يدرك أصحاب القرار أهمية التحول نحو التعلّم الرقمي، وهناك مؤشرات عديدة تدعو إلى تبني مثل هذا التوجه.

والمعلمون هم العنصر الأكثر أهمية في إنجاح تطبيق تجربة التعلّم عن بعد، أو التعلّم المدمج أو إفشالها. فإذا توافرت لديهم الرغبة في تبني مثل هذا التوجّه الرقمي، وامتلكوا متطلبات تكنولوجية محددة، وتوافرت فيهم كفايات معينة فإنهم سيساهمون في تطبيق هذه التجربة بكل نجاح. ومن هذه الكفايات:

1. متعلم: يعمل المعلم باستمرار في بيئات التعلّم الرقمية على تحسين ممارساته التعليمية من خلال التعلّم من الآخرين ومعهم، كما يعمل على استكشاف الممارسات المجربة والواعدة التي تعزز من استخدام التكنولوجيا لتحسين تعلّم الطلبة.
2. قائد: يسعى المعلم إلى إيجاد فرص للقيادة لدعم تمكين الطلبة ونجاحهم، ولتحسين التدريس والتعلم في بيئات التعلم الرقمية.
3. مواطن: يلهم ويشجع المعلم والطلبة على المساهمة الإيجابية في العالم الرقمي بشكل مسؤول.
4. متعاون: يخصص المعلم وقتًا للتعاون مع كل من الزملاء والطلبة لتحسين الممارسة التعليمية، واكتشاف ومشاركة المصادر والأفكار، وحل المشكلات في بيئات التعلّم الرقميّة.
5. مصمِّم: يقوم المعلم بتصميم الأنشطة والبيئات التعلمية الرقمية الأصيلة التي يقودها المتعلم، بحيث تتلاءم مع متغيرات المتعلمين.
6. ميِّسر: يقوم المعلم بتسهيل التعلّم باستخدام التكنولوجيا لدعم الطلبة ليكونوا متعلمين مفوضين، ومواطنين رقميين، ومنتجين للمعرفة، ومصممين مبتكرين، ومفكرين حاسوبيين، ومتواصلين مبدعين، ومتعاونين عالميين.
7. محلِّل: يفهم المعلم البيانات، ويستخدمها لتوجيه تعلم الطلبة ودعمهم في تحقيق أهدافهم التعلمية.

ثانياً: هل سيختفي المعلمون في البيئات الرقمية أو سيقل عددهم أم سيبقون كما هم أو سيزداد عددهم؟
من وجهة نظري، إن لم يبق المعلمون في البيئات الرقمية كما هم، فلا بد أن يزداد عليهم الطلب. إن ممارسات المعلم المطلوبة منه في هذه البيئات تتجاوز المهام المطلوب منه إنجازها في التعلّم التقليدي.
إن تصميم التعلّم في البيئات الرقمية معقد وغير مقتصر على إرسال مقطع فيديو أو ملف word أو PDF…! فالأمر أكثر تعقيدًا من ذلك، لأن الجهد المبذول من المعلم في البيئات الرقمية المصممة وفق المعايير العالمية تحتاج منه جهدًا ووقتًا كبيرين، أضف إلى ذلك الجهد الكبير في متابعة كل طالب وتوفير التغذية الراجعة المطلوبة وبما يتناسب مع حاجات كل طالب على حدة “تفريد التعليم”، من أجل أن يكتسب الطلبة المهارات الآتية:

– وإذا امتلك الطلبة مهارات التعلم الذاتي، فأعتقد أنهم هم الطرف الأكثر استعدادًا لتبني التعلّم الرقمي، فهم يمتلكون الكفايات التكنولوجية أو قادرون على امتلاكها، والمعلمون إذا حققوا الكفايات سالفة الذكر، فإنهم قادرون على تحقيق الكفايات الآتية لدى الطلبة:

– المتعلم المفوض: تعطي التكنولوجيا الطلبة نفوذًا واسعًا كي يلعبوا دورًا فاعلًا في اختيار الكفاءة وتحقيقها وإظهارها لبلوغ أهدافهم التعلّمية من خلال معرفتهم العلمية.

– المواطن الرقمي: يتعرف الطلبة حقوقهم وواجباتهم، وفرص العيش والتعلّم والعمل في عالم رقمي مترابط؛ ويتصرّفون بطرائق آمنة وقانونية وأخلاقية.

– منتج المعرفة: يجمع الطلبة وينقدون وينظمون مجموعة متنوعة من المصادر، باستخدام الأدوات الرقميّة لبناء المعرفة، وإنشاء نتاج إبداعي، والحصول على تجربة عملية ذات معنى لهم ولغيرهم.

– المصمم المبتكر: يستخدم الطلبة مجموعة من التقنيات المتنوّعة في إطار عملية التصميم؛ لتحديد المشكلات وحلّها من خلال ابتكار وسائل جديدة ومفيدة.

– المفكّر الحاسوبي: يطوّر الطلبة استراتيجيات يستخدمونها لفهم المشكلات وحلّها من خلال وسائل تُظهر نفوذ التكنولوجيا وقوّتها في تطوير الحلول واختبارها.
– المتواصل المبدع: يتواصل الطلبة بشكل واضح، ويعبّرون عن أنفسهم بطريقة إبداعيّة لأغراض متعددّة باستخدام منصّات، وأدوات، وأساليب، وصيغ ووسائل إعلاميّة رقميّة متناسبة مع أهدافهم.

– المتعاون العالمي: يستخدم الطلبة الوسائل الرقميّة لتوسيع آفاقهم وإثراء تعلّمهم بالتعاون مع الآخرين، والعمل بطريقة فاعلة في فرق على الصعيدين المحلّي والعالمي.

ثالثاً: ما مهارات الإنترنت التي ينبغي أن يمتلكها الطلبة في الفصول الافتراضية؟
• الإلمام بمتصفحات الويب وبرنامج البريد الإلكتروني.
• بعض الإلمام بالتفاعلات المستندة إلى الويب مثل: البريد الإلكتروني، ولوحات المناقشة، وغرف الدردشة.
• إتقان الكتابة ومعالجة الكلمات.
• خبرة في علميات البحث الناجحة على الإنترنت باستخدام مجموعة متنوعة من محركات البحث.

رابعاً: المحتوى التعليمي
ينبغي نقله إلى الصورة الرقمية، وهذه المهمة منوطة بمطوّري المناهج والمعلمين على حدٍّ سواء، والمحتوى التعليمي غير مقتصر على تحويل الكتاب المقرر إلى ملف رقمي كملف PDF، إنما ينبغي أن يأخذ أشكالًا رقمية متعددة، تساهم في تحقيق الأهداف التعلمية بما يتناسب وحاجات الطلبة. وقد يتطلب هذا الأمر وجود لجان دعم تقني في كل مدرسة.

خامساً: البيئات التعلمية الرقمية
يوفر نظام إدارة التعلم الإمكانات الآتية:
– الجدول الزمني لنشر وعرض المواعيد النهائية للنشاطات والواجبات…، وما إلى ذلك.
– منصة إعلانات لنشر المعلومات للطلبة جميعهم.
– خطة المادة المتضمنة واجب كل من المعلم والطالب لتحقيق الأهداف التعلمية.
– وحدات لنشر محتوى المادة وعرضها وفق الأهداف التعلمية.
– منصة للواجبات لنشر أعمال الطلبة وتقديمها وتصنيفها.
– منصة للمناقشات غير المتزامنة والعمل الجماعي والتعاون.
– منصة البريد الإلكتروني الخاصة للتواصل الخاص بين الطلبة و/أو المعلم.
– منصة للمحادثات المتزامنة في الوقت الحقيقي.
– منصة لتأليف وإدارة الاختبارات والاستطلاعات وما إلى ذلك.
– منصة لنشر وإدارة درجات الطلاب.
سادساً: أولياء الأمور
فبالرغم من أهمية دورهم، إلا أنه لا بد من أن يقتصر على متابعة تعلم أبنائهم واستدامته من خلال توفير بيئة تعلمية مناسبة لهم في البيت، والعمل على تعزيزها بأجهزة وتطبيقات تكنولوجية تفي بحاجات التعلم الرقمي فقط، وأن لا يتعدى ذلك إلى ممارساتهم لمهام المعلم أو الطالب. فوليُّ الأمر غير مكلف بتدريس أبنائه، كما أنه غير معني بحل واجبات أبنائه وتأدية الامتحانات بدلًا عنهم.

سابعاً: عمليات التقييم في التعلم الرقمي
إن عمليات التقييم في التعلم الرقمي غير محصورة في صور اختبارات مقاليّة أو موضوعية، إنما تركز في أكثر الأحيان على تفعيل التقييم الحقيقي كإنجاز المشاريع، وكتابة الأبحاث، وإعداد ملفات الإنجاز الرقمية…! وعلى ولي الأمر أن يعي أن دوره مقتصر على متابعة أبنائه واستدامة تعلمهم وأنه غير معني بحل الواجبات وأداء الاختبارات بدلًا عنهم.

ثامناً: التكنولوجيا توفر بيئات تعلمية رقمية مناسبة لجميع المتعلمين.
يتباين الطلبة بطرق عديدة ابتداء من العِرق، إلى الثقافة، إلى أنماط التعلم، إلى الطرق التي تهيمن فيها ذكاءاهم المتعددة. كما أن لبعض الطلبة أيضًا حاجات فريدة وخاصة. ويمكن للتكنولوجيا أن تساعد في مخاطبة السمات المألوفة للتنوع، فمن الممكن أيضًا أن تساعد في مخاطبة الحاجات الخاصة، حيثُ يمكن أن تقدم المساعدة للطلبة ذوي الإعاقات الجسمية، وتدعم المتعلمين ذوي التحدّيات، وتساعد في تلبية احتياجات كل متعلم في بيئات التعلّم الحقيقية والافتراضية. وفيما يتعلق بالطلبة ذوي الصعوبات، فإن التكنولوجيا يمكن أن تقدم لهم وسيلة مهمة لزيادة الاستقلالية، والمشاركة، والنجاح في الأنشطة التعلمية. والأهم من ذلك كله، هو أن التكنولوجيا يمكن أن تساعد في الوصول إلى المنهج المعياري الذي لا يمكن لهؤلاء الطلبة مخاطبته بدونها.

تاسعاً: التعلّم الرقمي يعمل على تقليل التعليم والتعلم من إنسانيته.
كيف نؤنسن التعليم والتعلم عن بعد؟

إن أنسنة التعليم هو المسار الذي يستطيع البشر من خلاله إدراك وجودهم في هذا العالم والوعي بدورهم، وأن الأنسنة تقوم على ثلاثة أعمدة هي الحضور، والتعاطف، والوعي. ويمكن أنسنة التعلم الرقمي والتعلم عن بُعد بتفعيل أسس الأنسنة وإحيائها باعتماد الآتي:
1. الحضور Presence: توافر مقدمة ذاتية للمعلم بداية المقرر الإلكتروني، والتفاعل مع الطلبة من خلال منتديات النقاش بطرق مختلفة، وإضافة التعليقات والملاحظات، وتوظيف الوجوه التعبيرية.
2. التعاطف Empathy : تزويد الطلبة بملف “خطوات نجاح المقرر التعليمي”، واستخدام نغمة تخاطبية عزيزي الطالب، وتعزيز التفاعل من خلال التبسيط والتيسير عبر غرف النقاش، وتصميم جميع الدروس بشكل موحد بحيث تكون واضحة ومفهومة للطلبة.
3. الوعي Awareness: إرسال استبانات للطلبة بداية الفصول الدراسية للسؤال حول ما يمكن للمعلم أن يقوم به لمساعدة الطلبة على اجتياز هذا المقرر بنجاح، عن طريق التقويم بأنواعه.
4. المشاركة Participation: علم الطلبة مع بعضهم وتواصلهم مع مختلف الأطراف.
ليس من السهل التنبؤ بمستقبل يتعرض لمتغيرات سريعة، ولكن تعليم المستقبل سيكون:
– مرنًا.
– مهاريّا.
– عمليّا.
– تكنولوجيّا.
وسيكون كل العاملين فيه عمال معرفة ينتجون أكثر مما يستهلكون! يفكرون، ويحللون، ويتنبأون.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى