.البنّورة

[review]كانت العتمة أكثر الضيوف تردّداً على بيتنا الطيني القديم..فعندما تمر الرياح من ذراع صوبة "البواري" وتصدر صوتاً يشبه العواء ، ويهتز برواز النافذة الخشبي..كانت تفاجئنا اللمبة الوحيدة بالانطفاء.. تاركة  للضيف – شبه اليومي "الظلام" – فسحة الجلوس معنا وإخافتنا حتى الصباح..كان للمطر الشديد هيبة فريدة، تنقطع فيه الكهرباء ، وتنكفىء له القدور المتكئة على حافة الجدار، ويسقط باب "الخان" أو يكاد…كل شيء كان يتفاعل بارتباك مع قدوم المطر الجاد… "هسع بتيجي": هذه الجملة التطمينية الأولى التي كانت تطلقها أمي بعيد انقطاع الكهرباء..عندما تلاحظ أن الحركة قد تجمّدت في عروق الجالسين بعد الدقيقة الأولى…ثم يطلق أحدهم تخميناً اعتيادياً وهو في وضعية جلوس تشبه جلسة "اليوغا": بجوز سيارة ضربت عمود كهربا…فيرد آخر – يجلس في ركن مقابل- متفّهاً الاحتمال السابق :شو عمود كهربا؟!!" أكيد فقع محوّل"..فيقوم ثالث بالنظر من النافذة الى بيوت الجيران حتى يتأكد ان كان سكان الحي جميعاً قد فقدوا نعمة"التيار" مثلنا أم لا؟!..فيأتي لنا بالخبر اليقين"كلها طافيه"…وبينما كانت أمي تستخدم حواسها الأربع المتبقية حتى تحضر لنا "البنّورة" أو ما يعرف بالسراج، يكون الجميع قد استنفذوا احتمالات الإنقطاع المعتادة، باستثناء ابي:- ..حيث كان ينصت جيداً لكل ما يقال ثم يفاجئنا بسبب آخر للانقطاع  لم نألفه من قبل ..كان يطلق نحنحة قصيرة ويتكلم بصوت قد غيّرت قليلاً من ذبذباته العتمة: ( "بدّه يمر مسؤول"..لمّا تنقطع الكهرباء زي هيتش أكيد في مسؤول مهم بدّه يمر من هون)..كنّا نسأله ولكنه نادراً ما كان يجيب..-        يابا!! ليش يقطعوا الكهربا بس يمر المسؤول ؟-         بعد صمت طويل: مشان تخف حركة الناس.-        يابا مين هاظ المسؤول؟-        بدريش..لكن اكيد مسؤول كبير!-        لويش يمر المسؤول من هون يابا، ويقطع علينا الكهربا!!..-        نسيت يا "كُرّ" – والكلام موجه لي طبعاً-  أن بلدنا حدودية..   مع نهاية تلك الإجابة كانت تشعل أمي "البنّورة" ، وتضعها في منتصف الغرفة أمام أبي وكأنها تقول أخرجتها من عهدتي وها هي في  عهدتك..يسود صمت جديد مع قدوم النور المتواضع.. بينما ثمة سؤال راقص في دماغي يشبه لهبة السراج يضيء زوايا التفكير المعتمة..لماذا يقطعون الكهرباء عندما يمر مسؤول كبير ؟؟ واذا كان مسؤول كبير الى هذه الدرجة لماذا يمر خفية من الحدود!! ما الذي سيفعله بعد ان يقطع الحدود ذهاباً أو اياباً ؟ ماذا يرتدي؟ ..لا أدري الى اللحظة اذا كان ذلك المبرر الذي كان يطلقه ابي  عند كل "انقطاع" حقيقياً أم انه من صنع خياله أيضا.. على أي حال ، كنت اعقد يدي على ركبتي المنتصبتين وأراقب الأشياء التي ضخمها بصيص السراج..فأرى "غُرّة" أخي؛ شجرة زيتون، والمسمار في الحائط؛ عسكري مناوب ، و"شربوشة"الستارة؛ جرس كنيسة..وقلم الرصاص "مئذنة"..وشماغ أبي خيمة عريضة، ويدي جناح غراب..أتمادى في التخيل حتى ينفد زيت اليقظة من جفني وينطفئ سراج العين وأنام..****يا لهذا الزمن القاحل من كل شيء: حتى المطر أصبح ذكرى..والعتمة أمنية.. احمد حسن الزعبيahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى