على قارعة الأيام/ ماجدة بني هاني

من مستشفى بسمة عنابر مستشفى بسمة تعج بالحكايات ، تتشابه حينا وتختلف أحيانا ، لكن يظل بطلها المرض ، ومكانها الأسرة المتهالكة.،وزمانها مطلق لا حدود له . المساء في غياهبها وحده حكاية ، يرويها الصمت المقنع ، إلا من أنين المرضى ، واختلاجات أنفسهم ، وحشرجات أرواح بعضهم . بالصدفة وجدتني ذات مساء على باب الجراحة ، أصارع الحارس للدخول ، بعد منتصف الليل حيث ترقد عمتي ، وبصعوبة بالغة دخلت ، فأنا أعلم يقينا أن لا نوم في المشفى ولا هجعة ، حتى وقت المنام ، ولكن ثمة حيرة كانت تتملكني ، وانقباضة تسابقني ، تنتابني دائما حين تسلك قدامي طريقا نحو المجهول . في العادة بدا كل شئ عادي ، المريضات حولهن المرافقات مجتمعات يروين شيئا من خاصتهن ،توحدهن المعاناة والانتظار ،يحاولن قتل الوقت لحين بزوغ فجر جديد . في كل شئ حولي ،لا يقتلني مشهد كمشهد المسنين ، لا أدري ،لماذا أعشق هذا العمر بالذات ، وما هو سري !! ترى هل أنهم يذكرونني بالشجر المعمر السامق وهو يطاول عنان السماء ،شامخا ،ممتد الجذوع ، متشابك الجذور والفروع ، مفعم بالثراء والعطاء . أم لأنني أرى في في وجه كل مسنة صورة أمي التي طالما تمنيت ، والتي غادرت الدنيا في عز صباها !! هي خطرات انتباتني وأنا في غرفة رقم ” أربعة ” وعند السرير الأيمن من العنبر ، حيث ترقد عجوز تسعينية تصارع الموت تتردد زفراتها داخل المكان …. لا أحد من المرافقات تدرك حتما مسألة نزع الروح ، وما يسبقها من أعتلاء في الصدر وخمود ، وإلا ما غرقن في أحاديث الدنيا وتفاهاتها ، ولكان المكان مطبق بالتهليل والتسبيح والعويل . العجوز لم يقتلها إلا الكبر ،وقرب انتهاء الأجل ، حجمها لا يتعدى طفلة في الثامنة ، دارت فيها عجلة الحياة إلى منتصفها ……… ثم عادت أدراجها ولكن بصورة معاكسة ، فارتدت طفلة من جديد ، مضمحلة الجسد ، عاجزة ،تتوق لرحم أمها الأولى ، رحم الأرض المكان الأدفأ والأحن . لهف نفسي على ذاك الجسد المسجى ،كم أثار شجوني ! وكم أغرقني في التأمل والرهبة ،وكم جاشت في خاطري فصول الحياة ،وبدت لي تلك المسنة كمسرحية من ثلاثة فصول ، أدركت بعيني وهواجسي فصلين منها ، وبقي فصل ناقص ، هو الفصل الأول والأخير. وبدون أن أتعنى وأتكلف ذل السؤآل اجتاحتني حفيدتها بموجة من السرد ، لتخرجني من حيرتي ،فتوقعني في حسرة وألم لم يكونا في الحسبان . فقبل سبعين سنة ،ثمة فتاة جميلة بل فاتنة القرية ، قدمت إلى الأردن من طول كرم مع زوج حبيب . حتى إذا ما أثمر الحب خمسة من الأبناء اختطف الموت زوحها في حادثة مروعة .فكظمت فجيعتها ، وانحنت على صغارها ، حتى إذا ما صاروا رجالا ونساء من أفضل الناس علما ومالا ، وصارت عجوزا انحنت أضلاعها ، وتهتكت خلايا دماغها ، لم يتقبلها أحد منهم ، وغرقوا في خضم الحياة وأطماعها . تقول الحفيدة وهي في الأربعين من العمر ، صحيح أن الله لم يرزقني زوجا ،ولا طفلا ، ولكن اتخذت من جدتي طفلة لي ،سأرعاها واحتضنها وقد تخلى عنها البقية ، وأرجو من الله ان يختار لنا الأفضل . عجبت من برها، وتعجبت من عقوق الأبناء . وغادرت المكان في عجالة ، تاركة ورائي مهجة حزينة تعذبها الرهافة ،وتجتويها النيران ، ولم أبح بما كنت أخشاه حتى لا أثير جلبة في المكان ، فقد كانت هناك ملائك تسبح ، ورحمات تتصعد في السماء . عدت ،وتوضأت ولجأت للإله بركعتين ، ودعوت أن يلهمنا البر والإحسان ،والأمن والإيمان ، وأن يمن الله علينا بحسن الختام .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. قبل أكثر من عقدين دخلت مشفى بسمة ، كنت حينها طالبا في اليرموك ، وضاعت الصورة في زحمة الحياة ، واليوم ها هي الأديبة الأردنية الأولى تعيد شتات الصورة ثانية ، بلغة أدبية سلسة ، وصورة تعانق صورة ، وعاطفة تكاد تحرق القارىء ، والأهم تلك الروح التي تنبث خلل هذا الجمال ، أهي روح عرار التي سكنت تل اربد وتشربتها هذه الحورانية الشابة ؟ جميل أن يصدح صوت اربدي بقضية إجتماعية ، ويغلفها بوهج من أبداع وصدق وحرارة . يبقى أمر : هذه الكاتبة تشق طريقها في عالم الكلمة بقوة وثبات ، ويبقى حقها قائم في رقبة ووزارة الثقافة والفنون ، فأريد ليست في قارة نائية ، وأهلها أردنيون نعتز بهم ونفخر ، تهانينا .

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى