مؤشرات الأداء ووهم الانجاز / د. عمار سليم الخوالده

مؤشرات الأداء ووهم الانجاز

الولوج في عالم الكتابة النقدية الأدائية غير الأدبية هو دخول في حقل ألغام، خاصة في عالمنا العربي الذي يضفي فيه الناس هالة من القداسة على أفعالهم قبل نواياهم ويخلطون نقد الأداء بنقد النوايا. إلا أن على من ارتضى لنفسه التصدي للعمل العام مدفوع الأجر كان أو تطوعيا أن يتقبل حق الآخرين في توجيه النقد وان تفاوتت درجات الموضوعية فيه، فبعض النقد موجه لمحاولة التغيير الهادف واحيانا يكون بهدف تسليط الضوء على الأخطاء لغياب أدوات المحاسبة أو تعذرها فيكون النقد بديلا للمحاسبة … لكنه أيا كان أداة مشروعة لا تستدعي الاستنفار بقوانين عجفاء ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، تكمم الأفواه وتكوي سياطها جلود الاحرار.
النقد في الممارسة المتحضرة للحكم والادارة يكون أداة تقييم ذاتية إذ تميز الدول والمؤسسات الناجحة نفسها باعتماد معايير واضحة ومحددة لقياس الأداء وتضع مؤشرات رئيسة
( KPIs) Key Performance Indicators
تحكم من خلالها على ما انجز فتقرر على ضوء نتائجها خطة العمل المستقبلية لتحسين أدائها أو تصحيح ما اعتراها من الأخطاء فتجتهد في تجويد الأداء والانتقال به إلى ما هو أفضل. وفي ظل غياب مثل هذه المعايير وسبل التقييم الشفافة لا ينبغي لاحد أن يدعي انجازا أو أن يتغنى به ففي ذلك اهانة للألباب واصحابها وهم كثر.
لقد ابتلينا في الأردن بأحداث جسام انكسرت فيها قلوبنا ودميت لها عيوننا، كان من آخرها “فاجعة البحر الميت” وما تلاها والتي لا ينبغي النظر إليها بمعزل عما اعترى الأردن الدولة من هوان وضعف في بنيته السياسية والادارية خلال العقدين الفائتين، ناهيك عما اعترى بنية ثقافتنا المجتمعية من هشاشة وسقم. فقبل فاجعة الفيضانات كانت صوامع العقبة التي أسدل الستار عليها بليل بعد أن أعدم فيها ثلة من أبناء الوطن الكادحين، وكانت عملية الكرك الإرهابية، ومخابرات البقعة، والركبان والتي فقدنا فيها مجتمعة مجموعة من ابنائنا البررة فكانت هذه الخطوب ندبة في جبين الأردن بانت خلالها عورة فشلنا في ادارة الازمات فكان أداء الدولة فيها ركيكا يستثير الحنق والغضب على دماء أريقت وارواح أزهقت وامهات بتن ثكالى دون أن نعرف ما هي الأخطاء التي قادت إلى تلك الفواجع ومن هم المسؤولون عنها ولم لم يحاسبوا بشفافية تزرع الثقة في قلوب الناس.
إن إدارة الأزمات فن لا يتقنه مسؤولونا وعلم لا يجيده ألو الامر منا … فالتكتم في غير موضعه مدعاة للريبة، والتناقض الفج بين “ذوي الشأن” لا يجلب إلا الشك وفقدان الثقة كما شهدنا في “رادرات هرقل”والكرك والبحر الميت وغيرها من الأحداث. لقد آن للدولة الأردنية أن تنعتق من عقلية اعلام الستينات والسبعينات المتهالك وان تلحق بركب الحضارة، فالشائعات لا تواجه بالتكتم تارة والتهديد أخرى، بل باعلام دولة حر ونظيف، شفاف وصادق، بعيد عن التملق والكذب وازرداء عقول الناس، اعلام يزرع الثقة والامل في صدور الخلق ويتبنى صوتهم المغيب … عندها لن يلتفت الناس لشائعات التواصل الاجتماعي وما يقوله المغرضون، أما دون ذلك فلن تزيدكم قوانين العسف التي تعدونها إلا وبالا وحسرة
لقد تمثلت في فاجعة البحر الميت كثير من عوامل الفشل التي باتت تهيمن على نهج إدارة الدولة حتى في امور لا ينبغي أن يقع فيها خطأ يزيد لوعة قلوب ذوي الضحايا كتحديد هوية فلذات أكبادهم، في فضيحة لا يضاهيها إلا الافتقار لخطط طوارئ فعالة للتعامل مع ما قد يصيبنا من كوارث، وقد رأينا التخبط الذي عاشه الناس لساعات طوال من سطور هذه المأساة التي لمع بها نجم أردني قروي شجاع لم يكن جزءا من “خطة طوارئ الدولة” بل قادته الصدفة لينقذ خمسة أرواح ويستعيد جثامين أربعا، وقد ضحى اردنيون ابرار أخر بجهدهم وأرواحهم عندما هبوا لنجدة الأطفال حتى اختطفت يد المنون أخا أمام ناظر أخيه. ولا ينكر منصف ما بذله أبناء الأردن في الدفاع المدني والامن وطواقم الصحة من جهد مدفوع في غالبه بحمية هؤلاء رغم افتقارهم لمظلة تخطيط إستراتيجي للتعامل مع ظروف كهذه … ثم رأينا بعدها الأداء الاعلامي الركيك والمواقف الهزيلة لرئيس الوزراء واعضاء حكومته التي كما كثير من الحكومات التي سبقتها، جيء بها على حين غرة وبآلية تشكيل سرية ومريبة تكلف الأردن الوطن اثمانا باهضة، بعد أن ارتأت قوى الظلام اياها، أن تجعل من تشكيل الحكومات العوبة غير مسلية توزع فيها الحصص والترضيات
ولو أن قوى الظلام تلك والتي تخذت من العبث بآلية تشكيل الحكومات في الأردن ديدنا لها بذلت نصف جهدها الذي ما انفكت تبذله لمحاربة قوى المعارضة الوطنية وتفتيت احزابها وبروح ثأرية فجة، لو بذلته في الاعداد لمواجهة كوارث كالتي اصابتنا، لكنا أفضل حالا وأرق مآلا، لكن اولوياتها منصبة على وأد أحلام الأردنيين في أية إصلاحات سياسية حقيقية تقود لنهضة إقتصادية فعالة، فمشكلة الأردن سياسية في الدرجة الأولى، أما الاقتصاد فتابع … إذ لا يمكن لاقتصاد اية دولة أن ينهض دون حاضنة سياسية نظيفة وشفافة (إلا إقتصاديات البترول) … أما في الأردن فقد تم العبث بالمنظومة السياسية وعلى رأسها الدستور بشكل مطرد وخصوصا في العقدين المنصرمين واضحى تركيز السلطة والصلاحيات غاية هذا العبث الدستوري الذي ساهم بشكل كبير في غياب الشفافية والمساءلة حتى أصبح الفساد مؤسسة متجذرة ذات أذرع ضاربة وكل من يقف في طريقها تحاك له التهم السياسية
أجل أضحى الفساد متشعبا ومتجذرا فمنه المالي و الاداري والبروتوكولي والمجتمعي لكن العبث بإرادة الشعب تزويرا لانتخاباته هو من ابشع انواع الفساد والذي يرقى من وجهة نظري الى حد الخيانة … فمن يتجرأ على تزوير ارادة الناخبين لا يمكن ان يؤتمن على اي من شؤونهم … وقد فجعنا في الاردن مرارا وعلى مدى عقود بتزوير إرادة الناخبين حتى أن بعضا من صناديقنا تبخرت دون أثر
المزعج في الامر أننا على يقين أن تزوير الانتخابات ليس قرارا تجرؤ اية حكومة على اتخاذه … بل هو “قرار سيادي” يوكل عادة للحكومات بتنفيذه … وهذا مكمن الخطر … إذ أن من تجرأوا على ارادتنا الانتخابية في السابق هم من “يرسمون” سياساتنا الاقتصادية والتي بيعت من خلالها مقدرات الوطن ارضاء لنزوات أهل الغي والطيش واشباعا “لرغباتهم” الجامحة
لم نصل إلى ما وصلنا إليه اليوم إلا لانا ارتضينا أن “تدار” البلد من قبل حكومات منزوعة الولاية وفي اعتداء صارخ على الدستور وبتنا تقودنا حكومة ظل لا نعرف مدى ارتباطها بأي من الأجندة الوطنية ناهيك عن إمكانية ارتباطها بأي من مراكز القوى العالمية التي لا تريد بالاردن خيرا ففي ظل غياب الشفافية والمساءلة الدستورية لا ندري ماذا يراد بنا … إلا أننا سنعض على أهداب وطننا وترابه الطهور بالنواجذ رغم أنف من يريدون به شرا
أما عندما يقوم بعض مسؤوليينا السابقين بتقمص ثوب الحكمة المصطنع فيخرجون على “الاعلام” بنفحاتهم السامقة والهامهم الرباني عن معوقات الاصلاح السياسي الاقتصادي في الاردن وعدم نضوج الأردنيين ليمارسوا حرياتهم السياسية، فأمر يدعو الى الشفقة المكللة بالحزن والغضب … فهم من اوردونا الموارد ولولا قبولهم بأدوار “التنفيذيين” اصحاب “حاضر سيدي” غير آبهين بما تعنيه كلمة “رجال دولة” التي تملي على اصحابها ان يرتقوا بأنفسهم الى ما يمليه هذا الوصف من جرأة في الطرح و صفاء في السريرة، لكنا على غير ما نحن عليه ألآن … فأكثر من يسيئ الى منظومة الحكم في الأردن ومكانتها الدستورية هم اؤلئك الدمى الذين يتقلدون المناصب العليا ليمارسوا الادارة الرديئة بدل القيادة الفذة ويرتضوا دور الخادم الذليل عوضا عن السيد الذي يقوم بواجبه الدستوري وان كلفه ذلك متاعا من الدنيا ما انفك زائلا.
لقد كلفتنا الرعونة التي طغت على أداء الدولة الاداري الغالي والنفيس، حتى أن عدواها انتقلت إلى مفاصل مجتمعية ومؤسسية متشعبة، فحال كثير من مؤسساتنا الأكاديمية مثلا لا يسر صديقا أو يغيظ عدوا … إذ أن التعيينات الأمنية لقادة تلك المؤسسات جعلت منها موئلا للترهل ووهم الانجاز أو إنجاز الوهم، سيان … فصار أن يعرض قادة بعض جامعاتنا “انجازاتهم” دون أن يوضحوا لنا ما هي مؤشرات الأداء التي حكموا من خلالها على جعلها “انجازات”، بل يكتفون بخطاب إنشائي فضفاض لا يسمن أو يغني من جوع
فمثلا قد يفاخر عميد أو رئيس جامعة أن جامعتهم استضافت 10 أو 12 مؤتمرا علميا في عام واحد دون أن يذكر لنا بشكل علمي إداري مفصل ما هي الآثار الملموسة لهذا العدد من المؤتمرات على تجويد نوعية التعليم في جامعتهم أو الارتقاء بمكانتها العلمية مقارنة بجامعات العالم المتقدم … أنا لا أقلل من الجهد المبذول في اقامة هذا العدد من المؤتمرات ، لكن ذلك بحد ذاته لا يعد إنجازا فأي صالة أفراح شعبية في الزرقاء يمكنها القيام بذلك وربما بشكل أفضل سيما أن صالات الأفراح تمتلك عادة أنظمة صوت متطورة على عكس بعض جامعاتنا التي قد لا تستطيع بث شريط فيديو مسجل في إحدى مؤتمراتها ناهيك عن عدم قدرتها على استضافة متحدثين خارجيين عبر الهاتف أو “الفيديو كونفرنس” وهو أمر يصيب المرء بالحيرة ويجلب التساؤلات عن اولوياتنا وجديتنا في تصنيفها
مثال آخر على وهم الانجاز أو إنجاز الوهم في إطار سرد مسؤولين أكاديميين “انجازاتهم” هو العمل على “تطوير قواعد أخلاقيات النشر الخاصة بالنشر في مجلات” جامعتهم … وذاك أمر يبعث على الذهول، إذ منذ متى يعتبر وضع القواعد الأخلاقية للنشر إنجازا؟ ألا يعد ذلك من البديهيات الواجب توفرها حتى في مجلات الحائط المدرسية؟ ثم أنهم يتحدثون عن مجلات جامعاتهم دون أن يفصلوا لنا قيمة هذه المجلات وهل تمكنت مثلا من جذب أي من الباحثين العالميين أو العرب المعتبرين للنشر بها؟ وما هو موقع تلك المجلات في الاستشهاد والاثر العلمي؟ هل هي حقا مجلات علمية محكمة ووازنة أم أنها نسخ علمية منقحة عن مجلة سيدتي؟ ثم إن تطوير الموقع الالكتروني لاحدى عمادات الجامعة المعنية بالشأن العلمي مثلا يعد من أعمال “البنية التحتية” الواجب توافرها وليس إنجازا تستفيؤون ظله وتستمطرون سحائبه
لقد بلغ البؤس بنا أن كثيرا من مؤسساتنا التطوعية لم تسلم من جحيم الانخراط في بوتقة الترهل و ضعف الادارة … فقد قامت مثلا مؤسسة تطوعية عابره للجغرافيا انشئت أصلا فيما انشئت له لمحاربة الترهل الاداري والاكاديمي، قامت بتقديم دروع الانجاز الوهمي في اعوام ثلاث متتالية في مؤتمراتها السنوية لوزراء خرج احدهم من الوزارة على اثر فضيحة “قوائم قبول المصلحة الوطنية العليا”، وأخرج آخر على اثر فاجعة البحر الميت بعد أن ادلى بتصريحات يندى لها الجبين، واما الثالث فحضر لرعاية مؤتمرهم فأخطأ باسم رئيس المؤسسة وتلعثم باسم محافظ المنطقة وجاء اداؤه باهتا ثم أعطي درعا تكريميا رغم أنه لم يمض على وجوده في الوزاره إلا عدة أشهر ولم يسجل له إنجاز يستحق التكريم … فأي بؤس نحن فيه؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى