متواطئون بلا حدود / يوسف غيشان

متواطئون بلا حدود
كنا في الزمانات نقرأ مجلة سوبرمان المصورة، والمترجمة بتصرف طبعا، حيث نرى سوبرمان وصديقته الصحفية رندا، يحييها سوبرمان، ثم يخرج من مكان قريب بصفته متنكرا بشخصية زميلها نبيل فوزي، العامل معها في صحيقة “الكوكب اليومي”. وكان تنكر سوبرمان يقتصر على عكس تسريحة شعره وارتداء نظارات طبية، وبذلة رسمية بدل لباس سوبرمان المعروف.
الغريب أننا كنا نصدق ان هكذا تنكر سوف يخفي شخصية سوبرمان ، والأغرب أننا ما نزال نصدق ذلك حتى الان، مع اننا صرنا نشاهد سوبرمان في افلام على الشاشة الفضية، مع ما يتبع ذلك من كون هذا التنكر هو مهزلة لا تمر على طفل طيب مصاب بمتلازمة براون.
طبعا نتجاوز هنا فكرة ان سوبرمان قادم من كوكب (كريبتون) البعيد ، وأنه حظي على الأرض بقوى جبارة ، لأن كوكبه كان يدور حول شمس حمراء، بينما يدور كوكبنا حول شمس صفراء، وخلاف ذلك من السواليف ……لكن لا بأس بذلك ، انه الخيال الذي يلبس مسوح العلم، ويمتعنا بقصص جميلة .
لكن ذلك لا يبرر أننا نصدق قصة التحول، من سوبرمان القوي الشجاع الجبار الى نبيل فوزي الخجول الجبان، في دقائق، بخصلة شعر معكوسة ونظارات طبية وبذلة “سموكن”……..التفسير الوحيد لهذا التصديق الجماعي هو التواطؤ…نعم إنه التواطؤ.
انه تواطؤ متفق عليه بين المخرج والممثل والجمهور ، والجميع مستفيد: المخرج يقدم عملا ناجحا تزداد نسبة نجاحه كلما تواطأ الجمهور معه اكثر وأكثر . والممثل يقدم شخصية ناحجة كلما صدق الجمهور أن هذا الرجل لا يمارس التمثيل، بل هو ذات الشخصية التي أمامهم فعلا ، والجمهور يحصل على متعة اكبر كلما خدع دماغة العاقل وأقنع نفسه بأن ما يراه ، على الشاشة، هو عين الحقيقة والواقع…وهكذا يتمتع الجميع.
المشكلة أن الجمهور..جمهور الأفلام، يعتاد على هذا التواطؤ الممتع،وينقله الى الحياة العملية بكل رحابة صدر وظهر وبنكرياس…فيعيش متواطئا مع الجميع ،لغايات المتعة أو لتقليل الألم ، أو ربما هي الطريقة الوحيدة التي يتقنها، لمارسة الحياة العادية.
هكذا يصدق الجمهور قصة تنكر الديكتاتورخلف شخصية العادل ، فيصبح الدكتاتور العادل ، الذي يقدم للجماهير الفتات مقابل الراحة . والراحة هنا حقيقية، لأن الجمهور يعفي نفسه من واجبه الحقيقي في ممارسة الديمقراطية الحقة والمشاركة في تنمية الوطن وحمايته ، ويضع كل ثقته في الديكتاتور ليقوم بالعمل عنه ..مقابل فضاوة البال .
قلت انها راحة حقيقية !..اقصد انها قد تبدو حقيقية في ذهن المخدوع، الذي لا يخدع سوى نفسه، لكنها في الواقع اكذوبة كبرى تصادر منا الحق في الحياة الحرة الكريمة، والحق في تغييرها نحو الأفضل، من اجلنا ومن اجل الأجيال القادمة.
إنه التواطؤ
إنه التواطؤ
ghishan@gmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى