احذروا … الثورة الزرقاء في الأردن / د. نبيل العتوم

احذروا … الثورة الزرقاء في الأردن

هل يعيش الأردن ثورة زرقاء بدأت تتشكل ملامحها عبر سطح الشبكة العنكبوتية خلال السنوات الأخيرة؟ . من المؤكد أن مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة «الفيسبوك»، وفرت للشباب الأردني فرصة لنشر آرائهم، والنبش في المحظور وانتقاد الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون قيود، والدفاع عن مواقف سياسية يؤمنون بها، بيد أن ما يلفت النظر هو قدرتهم على التحول إلى قوة ضاغطة تكاد تتجاوز ما يمكن أن تقوم به الأحزاب، وهو ما بدا لافتا خلال الحملة التي شنت على الصفحة الزرقاء خلال الأشهر الماضية، ، ولئن كانت نتائج تلك الحملة قد آتت أكلها، بعد أن اضطرت الدولة مجاراة هؤلاء ، بعد أن دفعت الصفحة الزرقاء جموع من المحتجين للمغادرة ولو لحظات للزحف نحو الدوار الرابع ، ما حدا بالدولة في نهاية المطاف إلى إجراء تغيير وزاري عاجل ، دون إدراك أنها وقعت في خطأ قاتل لأنها لم تحل المشكلة من الأساس للتعامل مع مطالبهم ، ومعتمدة على إستراتيجية تدوير النخب لامتصاص غضب “شعب الفيسبوك ” .

لا شك أننا اليوم في الأردن أمام قوة ضاغطة تكاد تتجاوز ما يمكن أن تقوم به الأحزاب والنقابات والجمعيات الأهلية …، وأمام فاعل جديد يمارس الضغط والتأثير، بوظائفه على الحكومات والمؤسسات التنفيذية والبرلمانية ، من خلال نقل ما يتم تداوله إلكترونيا وافتراضيا عبر الصفحات الزرقاء ، التي تحاول حشد الرأي العام وتوجيهه، و صناعة رأي عام مساند يكاد يلعب دور المعارضة للدولة وسياساتها بامتياز ، ما يجعلنا فعلا أمام قوة ضاغطة تكاد تتجاوز الأعراف السياسية في الأردن ، و التي جعلت مؤسسات صنع القرار الأردني في وضع لا تحسد عليه ، ما لم تضع تقدير سياسي وأمني دقيق وبشكل محايد يتم على ضوئه وضع خارطة طريق للخروج من المأزق المعقد الذي بتنا نعيشه .
أولاً لا بد من إجادة تحليل مضمون ما يروج على صفحات المواقع الاجتماعية،وعدم الاستهانة به، وعدم الاقتصار على الرد الخطابي الذي عودتنا الحكومات عليه ، وهذا يقودنا إلى طرح المزيد من الأسئلة حول امتلاك صناع القرار بحلتهم الحالية الإرادة و القدرة على مواكبة التحول الجديد، الذي تطالب به الصفحات الزرقاء ، في الوقت الذي يتعاظم دورها في الضغط والتأثير يومياً، والتي أحدثت جلبة كبيرة ، على ضوء موهبتها في التأثير على توجهات الرأي العام في الفضاء الأزرق ، وقدرتهم الواضحة على التعبئة والحشد مقابل ضعف ميكانيزمات التواصل المعتمدة من طرف الفاعلين السياسيين وهي مؤسسات الدولة .
الحاصل على الصفحات الزرقاء اليوم ، أن المشاركة عرفت حركية تسير باتجاهين متناقضين: فبينما تتراجع المشاركة السياسية التقليدية من خلال الانتخابات ، التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة في الأردن إلى جانب الانخفاض الحاد في مستوى الانخراط في التنظيمات السياسية التي يعزف جل الأردنيين عن الانضمام لها بعد اليأس من دورها وقدرتها على إحداث التغيير المطلوب ، تتزايد مستويات المشاركة الشعبية والجماهيرية بكثافة غير مسبوقة عبر خلق أطر «بديلة» عبر الصفجات الزرقاء مما ساعد للقاء أشخاص من فئات ومشارب اجتماعية وثقافية متنوعة ، حول قضايا ومطالب عملية ذات ارتباط مباشر بالواقع السياسي والهم اليومي ، وأضحى الأهم عند هؤلاء هو تعبئة وسائل تواصلية ومعرفية ذات صدى واسع تسمح بالتنديد من خلال “الثورة الألكترونية عبر الصفحة الزرقاء ” ضد مظاهر الإهانة والظلم ،وإفقار الناس بشكل أصبحت معه الصفحة الزرقاء في الأردن «مسرحاً للمضطهدين والمقهورين والبؤساء ».
لكن المخيف أن تفاعل الشباب من خلال الوسائط الاجتماعية لم ينعكس إيجابا في تطوير النهج الحكومي ، وهذا خلق بيئة صراعية على مستوى الخطاب الحكومي المتداول، لأننا أمام شرائح اجتماعية واعية، وعلى المستوى الذي تدرك الصواب من الخطأ ، ما جعل النخب الحكومية لا تعير اهتماماً كبيراً إلى ما يتم تداوله من مطالب لشعب” الصفحة الزرقاء “.والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن -هنا – ما هي العوامل والمتغيرات التي عززت من دور الصفحات الزرقاء في الأردن ؟ .

أولاً : عدم فعالية الأحزاب والتنظيمات النقابية وضعف أدائها فشعب الفيسبوك “أو “الصفحة الزرقاء” قد سحبوا البساط من تحت أقدام أحزاب المعارضة ومجلس النواب والنقابات و التي صارت في جيب الحكومة .
المؤكد أن عبقرية الفشل الحكومي باتت تتجسد من خلال الاخفاق في وضع الحلول لمواجهة المطالب التي يتم طرحها على الصفحة الزرقاء ، والتي لم يُدرك معها صناع القرار لغاية اللحظة أن أحد فوائد التنظيمات الحزبية والنقابات وأهمية انجاحها هو أمر ضروري ومحوري للحد من الاحتقانات الشعبية ، لأنها في نهاية المطاف هي القادرة على حشد مطالب أفرادها وأنصارها ، والشرائح التي تمثلها ، والتعبير عنها ، وهي أحد القنوات المهمة القادرة على ضبط سلوك منخرطيها، وتعاطيهم مع قضايا الشأن العام والدفاع عن حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، ووضع سقوف واضحة ومحددة يعاقب من يتجاوزها نيابة عن الدولة ، ومن هنا فإن أحد أهم إخفاقات الحكومات الأردنية الذريعة التي يجب محاسبتها عليها أنها أخذت على عاتقها إضعاف الأحزاب والنقابات والانتخابات والمجالس النيابية ومحاولة تدميرها وتشويه صورتها وهي لا تدرك فعلاً أنها تسيير بالدولة الأردنية نحو الهاوية ، مما فتح المجال أمام فاعل جديد ، وهو بالمناسبة أكبر تنظيم احتجاجي على الشبكة العنكبوتية في تاريخ الأردن ، حيث بات بمثابة ” البلدوزر الألكتروني ” – الذي يمتلك أنياباً ومخالب ، والمصيبة أن الحركة الاحتجاجية الواسعة لشعب الصفحة الزرقاء لا يتحرك لا بمنطق الأحزاب السياسية ولا بسقوفها ، ولا بحسابات النقابات ،و لم يعد يؤمن بها ولا بمجلس النواب ، يُمارس إستراتيجية للرد على الدولة من خلال الحشد والتعبئة و الضغط والتأثير الالكتروني على نطاق واسع على حساب مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية التي لم تتكيف بعد مع الواقع ، و التي باتت تعيش فترة سباتها الشتوي ، و تعاني من عدم القدرة على التكيف ، وتحاول التفكير بنمطية تقليدية قائمة على تعيين المزيد من الناطقين الرسمين للدفاع عنها ، والترافع أمام الناس لمحاولة اقناعهم ، وهي لم تدرك بعد أنها لا سبيل أمامها سوى القيام بجراحة اصلاحية ، لتعديل نهجها وسياساتها ، ورفع سوية النخب التي تختارها ، والتحول نحو الإصلاح المؤسسي لبنى الدولة، وتحصين المجتمع واستقراره ، وتعزيز دولة القانون والمؤسسات ، والتمكين الديمقراطي ، لأن المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية كافية للتعبير عن أداء الحكومات وبرامجها وإلى أين أدت بالشعب الأردني ، ما يعني أن قضية الحكومة خاسرة لغاية اللحظة ، ما يطرح التساؤل حول الثقة في جدوى المؤسسات القائمة بصيغتها الحالية ، وقيمتها الاعتبارية وسط مجتمع ينزع بإيقاع مرتفع نحو التشكيك في قيمة الدولة، ورمزية مؤسسة الحكم ، وباتت تُشكك في ثوابت الدولة برمتها ، و في تعاطيها مع قيم العدالة الاجتماعية، والمساواة، وتكافؤ الفرص، ووضع خارطة طريق للمشكلات التي يُعاني منها الناس ، بحيث لا تجدي معه لا الخطابات ولا البيانات ولا الاجتماعات مع شيوخ العشائر ووجهاء المناطق ، ولا مع “الكورس “الاعلامي ” المعهود .

ثانياً : من المؤكد أننا بتنا بصدد تحول اجتماعي عميق وغير مسبوق في المجتمع الأردني ، من خلال تحطيم ” الصفحة الزرقاء” لحاجز الخوف ، وامتلاك حرية التعبير التي باتت بلا سقوف ولا خطوط حمراء ولا زرقاء ، وهو ما لم تجرؤ عليه الأحزاب على طرحه أو الاقتراب منه يوماً ولا تعدي سقوفه خلال تاريخ الدولة الأردنية ، خاصة ما يتعلق منها بمؤسسة العرش وجلالة الملك الذي يعتبر وفق الدستور “مصونة لا تمس ” ، ما أدى إلى بروز دينامية اجتماعية بأبعاد سياسية تتجاوز السقف المتفاوض عليه –عادة- في مختلف المسارات والتوافقات المعلنة وغير المعلنة بين الدولة وبين الأحزاب والنقابات باعتبارها مؤسسات الوساطة التي تقوم بوظائف التمثيل المؤسساتي للمجتمع، والتأطير السياسي والاجتماعي لمطالب الأردنيين ، كلها أمور تؤكد أننا أمام حراك الكتروني خطير لا يمكن الاستهانة به بعد أن تحول إلى فعل نقدي عارم على الصفحات الزرقاء .

ثالثاً : أصبحت “الصفحات الزرقاء” تعكس حالة الإلحاح المجتمعي للمشاركة وإبداء الآراء والاستئناس بكل ما هو ممنوع ، لا يهم فيه التقيد بالأشكال ولا بالمساطر الواجب اعتمادها في ممارسة هذا الحق، ما دام أن الأهم والمفيد هو إيصال «صوت الناس» والتعبير عن تذمرهم وسخطهم إزاء كل ما يجري ، وإزاء أياً كان ، وتسمية الأمور بمسمياتها ، وعدم رضاه عن قرارات الدولة ، مع الفرز بدقة لتناول مكامن الخلل ، ومن هذه الزاوية يمكن أن نُفسر هذا الانجذاب الشعبي نحو مواقع التواصل الاجتماعي والحركات الاحتجاجية التلقائية البعيدة عن الأساليب التنظيمية التقليدية ، والتي لا يمكن التكهن بمسارتها بعد أن أنتجت فئات شبابية مقهورة ويائسة ومحطمة ، و باتت معه خيمة منصات التواصل الاجتماعي ملجأ من لا ملجأ له، يبث شكواه أو تعليقه أو انتقاداته في صفحته على (فيسبوك) أو بنشر فيديو في (يوتيوب) ، وبدأنا نشهد استخدام الصور والمؤثرات الصوتية ، واليوتيوب ، والكاريكاتيرات الساخرة في حملاتهم ، حيث تحول العالم الأزرق إلى مجال يتواجد فيه جموع المحتجين لمحاورة أنفسهم فقط دون غيرهم ، وهنا مكمن الخطر الذي يجب الانتباه له ، لأنه خلق فضاءاً مغلقاً يعج باليأس والتعبئة والتحريض ، مع غياب المسئول عما يجري ، و بهذا أضحت مواقع التواصل الاجتماعي إجمالاً منصة للحملات الالكترونية ، والقائمة على محتوى يصنعه المواطن الأردني الغاضب ، لذلك حين نتحدث عن التعبئة لا يمكن أن نتجاهل من يقوم بها، ومن يكون وراءها خاصة أنه لا يمكن إغفال المتغير الخارجي ومحاولة استغلال الظروف لبث سموم البعض للتأثير ، خاصة أننا بتنا أمام مشهد سياسي واقتصادي واجتماعي فاشل، ونخبة سياسية وثقافية وإعلامية رسمية تعاني من التوحد السياسي ، مما جعل الساحة فارغة للتواصل الاجتماعي ، و قام بالتعويض عنها مدونيين من ما هب ودب ، ولا أدل على ذلك أن يصبح مدون إسرائيلي مثل “ايدي كوهين” مصدراً لبعض سكان الصفحة الزرقاء للنقل والاقتباس ونقل المعلومة عنه .

رابعاً : الملفت كذلك دخول العنصر النسائي بشكل لافت ، والذي بات يعاني من مشكلات البطالة والعنوسة والطلاق ….بفعل الأزمة الاقتصادية التي فاقمتها السياسات الحكومية المتعاقبة ، وهذا عزز فكرة ” الهبة ” أو ” الفزعة الألكترونية ” لمحاولة استثارة العنصر الذكوري للمشاركة في الصفحات الزرقاء ، وهذا كان له الدور المؤثر في التعبئة والحشد والنزول للشارع في وقت من الأوقات .
خامساً :” قضية روح التحدي ” لا بد من الاعتراف كذلك إلى أن من يقود التعبئة في هده المنصات هم الفئة الشابة اللذين يمثلون الفئات العمرية النشطة ، التي يحركها الغضب والسخط والتحدي ، وليس من اليسهل التأثير فيها، ،وباتت هي نفسها تعارض وتحتج في العلن ومستعدة لمواجهة العواقب مهما كانت من خلال ما تطرحه من أراء ووجهات نظر ، لأنها ليس لديها ما تخسره كما تقول ،فكل ما يجري يجعل شعب الصفحة الزرقاء في الأردن ، خاصة الشباب منهم واللذين يشكلون الأغلبية ، يتحولون طوعاً للتعاطي مع هذه الصفحة للتعبير عن شعورهم بعدم الرضا ، حيث توفر يسرا في التواصل، وحرية أكثر في التعبير، وسرعة أمثل في تعميم الخبر، وفرصة أوفر في مباركة المبادرات النقدية-الاحتجاجية لكل ما يمثل «جورا أو ظلما اجتماعيا للسلطة ، ورموزها ، وحشد المساندة والتضامن مع المعلنين عنها، وهو ما يشكل بالفعل قوة ضغط «شعبية» غير مسبوقة على ضوء الظروف البائسة للناس ، و تصبح أكثر إثارة واستعارة للانتباه من أشكال التنديد والشجب ضد السياسة الرسمية التي فشلت في كل ما أطلقته من مبادرات بعد أن تم تحويل القرارات الحكومي عبر الصفحة الزرقاء إلى نوع من الكوميديا السوداء، وانتقلت معه من دائرة الاحتجاج إلى التحريض، ووصل الأمر إلى أن تنادى بعض ” الفيسبوكيون على الصفحات الزرقاء ” إلى ضرورة التواصل مع النشطاء في خارج الأردن ، بهدف تشكيل لوبيات للضغط على المنظمات والمؤسسات الأممية والدول الغربية لإسناد مطالب المحتجين على الدوار الرابع ، هذا بالإضافة إلى محاولة تطبيق التراسل الفوري «واتساب» الذي تحول إلى منصة لتقدم الأخبار والمعلومات للفضائيات والمواقع الإخبارية لنقل أخبار الاحتجاجات والصور مباشرة على الدوار الرابع ، وليتم التعامل معها باعتبارها «خدمة صحافية» لنشر أخبار الاحتجاجات وما يجري في الأردن ، وقد اختار نشطاء الحراك توظيف “اللايف” عبر الفيسبوك للحشد والتعبئة ، من هنا أوجدت ما يسمى “الاعلام البديل” أو “اعلام المواطن” بدل إعلام الحكومة ، وكأننا بتنا أمام طرفين أو نقيضين يعيشان في حالة من الصراع ، وبسبب مزايا هذا الإعلام الشبكي التفاعلي غير الرسمي فإن التوعية والتحشيد وتحريك الرأي العام والشارع أصبح أكثر فاعلية وسهولة بين الناس بعد أن تحول الشباب على الصفحات الزرقاء إلى صحفيين ومراسلين وكُتاب في لحظة من الاحتجاج الآخذ بالتصاعد على مقياس متعددة الدرجات ، بل باتت لا تؤمن بها على الاطلاق كأحد القنوات لفلترة مطالبهم وطموحاتهم ، وهنا مكمن الخطر الذي لم تحسب له الدولة الأردنية أي حساب ، وبدأنا نسمع مصطلحات لافته مثل أن النضال الالكتروني سيستمر لتشكيل أكبر” حشد شعبي ” للنزول إلى الشوارع حين تدق ساعة الصفر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. اتمنى لو يفهم مسؤولينا خطورة ما يحدث،مقالات تكشف مرض مجتمعنا وعلاجه،سلمت دكتور وسلمت العقول النيرة امثالك.

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى