شجرة ليمون / عامر السلماني

شجرة ليمون

كبطلٍ من أبطالِ القَصصِ الخياليةِ يقفُ مشدوهًا منبهرًا ببريق اللآلئ، وأنوارِ الثرياتِ في القصرِ العظيمِ الفارغِ الغارقِ في الصَّمتِ الذي وَجدَ نفسَهُ فيهِ بعدَ رحلةِ ضياعٍ في الغابةِ المسحورةِ. هكذا وجدَ نفسَهُ مزروعًا تحتَ شجرةِ الليمونِ أمامَ البيتِ العتيقِ.
الأمطارُ قدْ توقفتْ عنِ الهطولِ منذُ ساعاتٍ قليلةٍ، أوراقُ شجرةِ الليمونِ خضراءُ يانعةٌ، وحباتُها الصفراءُ كأنَّها ثرياتُ الذَّهبِ تتدلى من سقفٍ أخضرَ ناعمٍ، وأشعةُ شمسِ الأصيلِ تصبغُ المنظرَ بالجلالِ والجمالِ والهيبةِ فيزدادُ هو شُعورًا بالدهشةِ.
عيناه مَفتوحتان على مصراعيهما يملؤهما الذهول، وهو مأخوذٌ بهذا المنظرِ المهيبِ، أوراقُ شجرةِ الليمونِ تلامسُ شعرَهُ حين داعبتْها نسمةُ رقيقةٌ كأنَّها يدُ حبيبةٍ تداعبُ شعرَ حبيبِها، تمتدُ يدُهُ إلى عناقيدِ الذهبِ المدلاةِ، يتَحَسسهُا برقةٍ ويديرُها في كفهِ دونَ أنْ يقطفَها.
صوتُ صريرِ البابِ على بعد خطواتٍ منهُ نبَّهَهُ منْ غَفْلَتِهِ، أعادَهُ إلى الشُّعورِ بقدميْةِ على الأرضِ، التفتَ نحوَ الصَّوتِ القادمِ عن يمينِهِ حيثُ سقطَ منْ يدهَا الطَّبقُ الخشبيُّ الذي تمزجُ عليه الألوانَ. على مريولِها الأبيضِ شكَّلَ المزيجُ اللونيِّ خيطينِ متوازيينِ: أصفرَ وبنفسجيًّا، يلتقيانِ في نقطةٍ ثمَ يتباعدانِ إلى طرفيّ المريولِ الأبيضِ، وعلى الأرضِ شكلَّ المزيجُ لوحةً تجريديةً من الألوان المختلفةِ متشابكةً متداخلةً كأذرعِ أخطبوطيةٍ.
الدهشةُ في عينَيها أكبر منْ دهشَتهِ، السؤالُ البادي في عينيها ولا تقوى شفتاها على التفوهِ به: كيفَ جاءَ هذا الرجلُ إلى هنا؟ ما الذي حلَّ بالمسافاتِ الشاسعةِ من الصَّحاري التي تفصلُ بينهما؟ كيف عبر تلك البحورِ؟ كيف اختُزِلتْ تلكَ المسافاتُ إلى بضعِ درجاتٍ قديمةٍ بينَ التراسِ وحديقةِ البيتِ حيثُ تشمخُ شجرةُ الليمونِ؟ لحظاتٌ مرتْ والمشهدُ الخارجيُّ جامدٌ، امرأةٌ مكتملةُ الأنوثةِ تقفُ بينَ عمودينِ حجريينِ كأنها تمثالٌ لآلهةٍ إغريقيةٍ، ورجلٌ وخطَ الشيبُ رأسهُ على أبوبِ الخمسينَ، يقفُ تحتَ شجرةِ الليمونِ ثابتًا كساقِ شجرةٍ ثبتتْ في الترابِ. ولكنَّ المشهدَ الداخلي يفورُ فورانَ الماءِ في القدرِ، العيون تتساءل، والنفوس تضطرب، والعقولُ تبحثُ عن تفسيرٍ.
تحركَ الجسدانِ في لحظةٍ واحدةٍ كأن التمثالينِ خرجا من إطاريهما، خطا نحوها، وخطتْ نحوَهُ، يَمدُّ يديه إليها، وتلتقي الأكفُ على الدرجةِ الأقربِ للتراس، كفاه تحاولان أن تحتضنا كفيها، تشد عليهما، فيشعر بأن كفيها أثيريين، كأنهما طيفٌّ لا يمكنُ لمسُهُ وإنْ كنتَ تراهُ، تشدُهُ من يدهِ فيصبحا على المستوى ذاتِه على التراسِ، متواجهين، المسافة بينهما تلاشتْ، يحسُ بدفءِ أنفاسِها، وتسمعُ دقاتِ قلبِهِ، وتلتقي العينانِ في حوارٍ طويلٍ، بينما يصمتُ اللسانانِ عن أي كلامٍ.
تطول اللحظات الأبدية وكأنها لا تنتهي، وتبقى لغة الكلام مصابة بالشلل. يتنبه عقلها في اللاوعي مدركًا برودة الجو، فتحاول سحبه من يده إلى الداخل، لكنه لا يستجيب وعلى العكس يسحبها من يدها فتستجيب طائعة وتمشي إلى جانبه وهو يطوق خصرها بذراعه اليمنى، وما زال ممسكًا كفها بيسراه، على المقربة من شجرة الليمون في الحديقة مقعد لم يتبين إن كان حجريًا أو خشبيًا جلسا متلاصقين، يشعر أحدهما بدفء صاحبه.
لم تسأل الأسئلة الطبيعية، لم تسأله كيف وصل بيتها وبينهما تلك المسافات. لم تسأله كيف عرف بيتها رغم أنه لم يزر مدينتها يومًا من الأيام. وراحا في حديث عادي، تكلمه عن اللوحة التي كانت ترسمها قبل قليل، ويحدثها عن اغترابه، عن قراءاته، عن حياته اليومية، عن أشياء صغيرة كأنهما يلتقيان كل يوم.
تحدثا عن جمال شجرة الليمون، عن حباتها الصفراء الذهبية المصبوغة بحمرة خجل الأصيل، ورغم تلاصقهما كان يشعر أنها هلامية، أو طيف خيال، علت ضحكاتهما وهي تروي له نكتة حديثة، فجاء صوت أمها من الداخل، لندا …. لندا ….
فوق رأسه بجانب السرير كان صوت أخته الكبرى تناديه، عمر… عمر… الإفطار جاهز. أقسم بالكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، وهو يروي هذه الحكاية، أنه وجد على قميص منامته خطين من اللون البنفسجي والأصفر يلتقيان في نقطة ثم يفترقان.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى