ناصر شبانة: القصيدةَ لا يمكنُ أن تكونَ وثيقةً تاريخيّة أو نصًا تسجيليًا

نظمت لجنة الدراسات والنقد الأدبي في رابطة الكتاب الأردنيين، مساء أول أمس، ندوة بعنوان: «حقيقة الشاعر»، تحدث فيها الشاعر والناقد د. ناصر شبانة، وأدار الناقد الدكتور عبد الفتاح النجار، وسط حضور من المثقفين والمهتمين. واستهل الدكتور شبانة الندوة، متسائلا: يسألونك عن الشاعر، قل هو كائنٌ عابثٌ ملتزمٌ بعبثِه، وطفلٌ لاهٍ مسرورٌ بلهوِه، مزيجٌ من طينِ الإنس، أيُّ مخلوقٍ هذا الذي يخلقُ قصيدتَه، من طينِ اللغةِ العفويّة، وينفخُ فيها من روحِ عبقريته وفردانيته، فتتمثّلَ له شعرًا سويَّا، وأيُّ كائنٍ أسطوريّ هذا القادرُ على استفزازِ دموعِ البشر، واستدراجِها إلى لهبِ القصيدة، وخلْقِ ابتساماتِهم على هيئةِ هلالٍ مشبعٍ بالنرجسيَّة؟ مؤكدا د. شبانة ان شبحَ الشاعرِ لا يظهرُ إلا حين يتنزلُ ليلُ القصيدة، ويلوحُ بدرُ الإلهام، فلا شاعرَ خارج القصيدة، ولا قصيدةَ خارجَ دائرةِ الإلهام، ونحن لا نقول: ذهب الشاعرُ وجاء الشاعرُ إلا مجازًا، فهو ليس شاعرًا في ذهابه، وليس شاعرًا في مجيئه، وليس شاعرًا في عملِه، ولا شاعرًا في نومِه، إنه شاعرٌ فقط حين يمارسُ فعلَ الكتابة، إنه في تلك اللحظاتِ فحسبُ يغدو كائنًا أسطوريًا، أو رجلا مستذئبًا، يملكُ قوى خارقة، وقدرةً على الافتراس، وحالما تخمدُ نارُ القصيدةِ في روحه، يعودُ متعبًا شاحبًا كما كان أولَ مرّة، بشريًا طينيًا، لا هالةَ نورٍ تَحُفُّه، ولا لهبَ نارٍ يُوقده، عندئذٍ لا نقول إنه شاعر إلا تجاوزًا للحقيقة. ويمضي د. شبانة في تساؤله قائلا: ما الذي ينبني على هذا من نتائج؟ هذا يعني أنه من الوهمِ النقديِّ المتوارثِ ما نجدُهُ من ذهابِ نقادٍ أو مناهجَ نقديةٍ إلى المطابقة والمقايسة بين حياةِ الشاعر وقصيدته، محاولين أو متوهّمين أن في قصيدة الشاعر حقيقَته، وأسرارَ حياتِه، وتفاصيلَ أخلاقِه وشيمِه، مما يجعلُهم يعيبون عليه مثلا سُكْره وغِيَّه، ويمتدحون فيه نُبلَ أخلاقِهِ وفروسيَّته وشهامتَه، كلُّ ذلك اتكاءً على شعرهِ الخادع، وسرابِ قصيدتِهِ الذي يحسبُهُ الظامئُ ماءً زلالا، إنَّ الشاعرَ في قصيدتِهِ سوى الشاعرِ خارجَ القصيدة، فالشاعرُ ممثلٌ كبيرٌ، يؤدي دورًا ما في القصيدة، مختلفًا تمامًا عن دورِه الذي يؤدّيه في الواقع، قد يؤدي دورَ العاشقِ دون أن يجرِّبَ العشق، وقد يؤدّي دورَ الفارسِ دون أن يجربَ الفروسية، وقد يؤدّي دورَ الفاجرِ دون أن يكونه إلا هاجسًا في حيِّزِ القصيدة.   ويلفت النظر د. شبانه حين قال: منْ يظنُّ أحمد شوقي في مديحِهِ النبويِّ عاشقًا للدين متزمتًا، إنما وقع في الشَّرَكِ نفسه، لأنّه لم يفهم طبيعةَ الدورِ الذي يؤدّيه الشاعر، وكذلك من اتّهم أبا نواس أو نزار قباني بالتهتُّك والفجور، قد يعجبُ كلَّ العجبِ إن وجد هذيْن في حياتِهما وواقعِهما على النقيضِ من ذلك، مشيرا إلى أن الشاعر يؤدي الدورَ الذي يلائمه، والدورَ الذي يتقنُه، لا الدورَ الذي يمثّلُ حياتَه، أو يُعدُّ صورةً طبقَ الأصلِ منها، ذلك بالضّبطِ ما فطنَ إليه أوائلُ النقادِ حين قالوا: أعذبُ الشعرِ أكذبُه، ليس كما يقول البلاغيون، بأن المقصودَ الكذبُ البلاغي، أي التصرفُ في فنونِ القول من مبالغةٍ ومجاز، بل المقصودُ الدورُ الذي يؤديهِ الشاعرُ في قصيدتِهِ قبل أن يعودَ إلى طبيعتِهِ البشريّة. وبيّن د. شبانة إلى أن أفلاطونَ كان محقًا في بعضِ جوانبِ نظريتِه، حين ادّعى أنّ الشاعرَ ليس مسؤولا عن أقواله، فهو يتلقّاها إلهامًا، ولا فضلَ له فيها، نعم إنّ حالةَ الإلهامِ التي تتلبّسُ الشاعرَ تُخرجُه عن طوره، وتذهبُ به مذاهبَ في القول كمن يتلبسُّه جنيٌّ ويقولُ على لسانِهِ ما لا يريدُ أن يقولَه. ورأى شبانة، ان القصيدةَ لا يمكنُ أن تكونَ وثيقةً تاريخيّة، أو نصًا تسجيليًا، حتى لو احتوتْ بعضَ الحقائق، كما أنها ينبغي ألا تكونَ لائحةَ اتّهامٍ بحقِّ شاعرِها الذي يغدو دمُهُ مهدورًا كشاعرِ القبيلةِ الذي خرجَ على أعرافها، إنّها – أي القصيدة – تظلُّ عملا تخييليًا، نَعجبُ بالدور الذي يقومُ به الشاعر مهما كان الدورُ الذي يمثّله شيطانيًا أو شريرًا، الفيصلُ في الأمر: هل أدّى الشاعرُ دورَه ببراعة، أم أنّه فشلَ في أداءِ هذا الدور فنيًا. هذا هو السؤال، مشيرا إلى أن كلَّ الحواشي والتعليقاتِ على النصِّ الشعريِّ من نبذةٍ عن حياة الشاعر أو سيرتِهِ الذاتيةِ أو مناسباتِ القصائدِ لن تُسهم سوى في تزييفِ وعيِ القارئِ بالنصِّ الجديد، وقد تأخذُهُ بعيدًا عن حقائقِ النصِّ المرتبطةِ بلحظةِ الإلهامِ التي لا تمثِّلُ من الشاعرِ سوى لحظتهِ تلك، أما الذاكرةُ التاريخيةُ لحياةِ الشاعرِ فلا علاقةَ لها بديناميةِ الكتابةِ الشعريةِ، وكلما تطابقت حقائق النص مع حقائق التاريخ في النص الشعريّ راح ينحو منحى التاريخية، وينأى عن آفاقِهِ الجماليّةِ والفنيّةِ التي تعني القارئَ الذي يبحثُ عنها بين لفائفِ النصِّ الشعريِّ. وخلص د. شبانه إلى القول: إنّ النصَّ الشعريَّ حالةٌ فرديةٌ لا تتكرّر، يُخلقُ في لحظة استثنائيةٍ نادرة، لا يُقاسُ عليها، ولا تمثّلُ من الواقع إلا حدّه الأدنى، وقيمتُهُ في ذاتِه، وليسَ في هوامشِهِ وحواشيه التي تمثّلُ أغلالا تُثقلُ النصَّ بما لا حاجةَ له، مبينا أن  القارئَ في قراءتِهِ للنصِّ الشعريِّ إنّما يبحثُ عن تلكَ اللحظةِ النادرة، وعن ذلك الجوهرِ الجوّانيّ الذي يمثّلُ الشاعرَ في ذروةِ انشغالاتِهِ الشعريّة، وفي قمةِ جوهرهِ النورانيّ المتبرّئ من طينِ البشر، الذي يمثّلُ حاشيةً على جوهرِه ومَعْدِنِه

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى