من القدس تبدأ الحكاية / أبو ورد

من القدس تبدأ الحكاية
من القدس تبدأ الحكاية ، استنساخ رواية التاريخ والهزائم والزعامات . سينما الحمراء النسخة الخجولة من حمراء يافا، وحمراء ييروت ، وقبل استحكام عقدة الحكاية : حمراء عمان . سأتوغل قليلا في الذاكرة ، غرناطة وقصرها الأحمر ، وهل سافرت خطيئة ملوك الطوائف إلى شواطئ يافا فكانت اللعنة . الاستنساخ هنا يختزل الحكاية تماما ، النصر حمل كاذب ، أو العكس تماما ، المهم أن نعيد الكتابة لا القراءة .
في القدس تقرر الوالدة زيارة الأقصى ، نلتف حولها ، ننتعل صنادل بلاستيكية ، ونغادر . الزيارة هنا طقس ديني ، تخالطه سحرية بدوية ، مغارة الأرواح ، حيث آدم وحواء وسيل عرم ممن عبروا في انتظار تفاحة أخيرة . في الطريق يقتنص سائح إفرنجي عود الوالدة ، خريطة الوشم الساكن على صفحات الخد ، يتأهب لإلتقاط صورة فوتوغرافية ، وعلى ركبة ونصف يجلس ، ربما رأى شيئا لم نره طول أعمارنا ، مثلما فشل الوالد في رؤيته ، في اللحظة الأخيرة تدير ظهرها . كان يمكن لهذه البدوية أن تغدو جزءا من تاريخ المدينة ، تجول معظم متاحف العالم ، دليلا قاطعا على يهودية المدينة ، وتراثها المقدس !!
على بوابة الأقصى تندلع مشاجرة عنيفة ، الحارس الجالس على يمين البوابة يرفض دخولنا بالأحذية ، شيئا لم نعتده من قبل ، وترفضه الوالدة . القداسة هنا بدوية ، قابلة للتغيير . وليذهب السادن للجحيم . كان يتمتم بكلام كثير وكنا نشق طريقنا الى مغارة الارواح . نظرت مبهورا الى صخرة متوسطة الحجم ، تعتريها ظلمة ليست بالداكنة ، ورطوبة ليست بالشديدة ، وصمت مهيب . في الجانب القريب من المنظر ثمة انوبة مغروسة بالأرضية ، قطرها يبلغ اربعة انشات تقريبا هنا بالضبط تدخل الارواح في رحلتها الأبدية ، ولا تعود . انطبعت الصورة في ذهن الطفل ، وما زالت تثير شعورا غامضا لذيذا .
في الطابق السفلي كانت اقامتنا ، مستأجرين جدد عند ابي عبد الله ، وابنه صحفي بالكويت ، اجمل ما هناك صديقتي سناء ، قدسية شقراء ، شعرها شلال من ذهب ، لطيفة المعشر هادئة . نختلس سويعات نتبادل النظر والشقاوة . لحظ اهلها فوضويتي ، ربما شيئا من وحشانية صحراوية ، وقرروا قطع العلاقة ، افتقدتها في اليوم التالي ، وفي الايام التالية . افتقدتها طويلا . وما زالت حسرة الغياب تملأ القلب الى اليوم .
في اليوم التالي للزيارة تقتحم امرأة مسنة بيتنا ، كانت تتحدث عن تجربة سيجريها الجيش الاردني ، اطلاق صافرات الانذارت امام هجوم جوي صهيوني مفترض . عند الظهيرة انطلقت صافرات حادة ما زال صوتها يخترق الاذان ، اندس الجميع في ملجأ صغير . العجز ، المجهول ، والخوف تحفر اخاديدها على وجوه كبار السن . هذه الواقعة فتحت عيني الطفل على الطرف الاخر من السياج ، جبل اسكوبيوس ، في الجهة البعيدة منه ثمة مبنى مستطيل ، بنوافذ صغيرة متعددة ، لعله مشفى هداسا ، لفت نظري رجال طوال يعتمرون قبعات سوداء ، ومعاطف سوداء ، مشغولون ، وفي عجلة من امرهم .
في القدس كل شيء هادئ ، يمضي بصمت ، تغلفه عناية الرحمن ، هكذا ظن السذج من اهل القدس وما جاورها ، وما علموا ان الجمر مخبوء تحت الرماد ، وسيأتي زمن عصيب ، خياراته صعبة ، اقلها قيمة عندما تغدو الخيانة وجة نظر ، قابلة للنقاش والتبني .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. من روائع الأدب ….
    لا أدري كنت أقرأ قطعة من سيرة ذاتية ، أم كنت التهم قطعة من الحلوى ، تصوير دقيق جميل ورائق ، تحفة ادبية تستحق الوقوف أمامها مطولا ….
    لله در حرفك ما أعذبه !
    وإلى الإمام ….ووعد بمقالة نقدية لائقة ….ونص من وحي هذا الفتح الأدبي الملهم …بكل ما في هذه الكلمة من معنى ….

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى