كاترينا الخطاطة / يوسف غيشان

كاترينا الخطاطة

المكان: مأدبا.
الزمان: الشهر الأخير من عام1970.
النساء عادة لا يشاركن في تشييع المتوفى إلى المقبرة، إذ ينتهي دورهن بعد انتهاء الصلاة على الميت في الكنيسة، وبعدها يعدن إلى بيوتهن، ويسمح لهن بزيارة القبر صباح اليوم التالي. هذه هي العادات المتبعة، لكن كاترينا الخطاطة كانت تمشي بين الرجال من دون أن يعبأ بها أحد، وعندما شاهدت عزيزة، وهي امرأة تبدو كأنها ولدت عجوزاً، ترتدي مدرقة سوداء أنظف قليلاً وأقل اهتراءً من مدرقة كاترينا، لكنهما تشابهتا في الشكل والحكم، لكأنهما من عائلة واحدة. نادتها كاترينا لتمشي إلى جانبها، فامتثلت للأمر فوراً، فقد خشيت أن (تدعي) عليها، فتدمر مستقبلها، غير الأكاديمي، طبعاً.
سارت المرأتان معاً مثل كتلتين من السواد، كاترينا كانت ساهمة ومنكسة الرأس بعدما حصل معها، قبل أشهر، بعد أن اشتهرت، في البلدة، عبارة:
-الله يقطعتشوا ويقطع كاترينتشو.
وهي عبارة اطلقها محمود الهندي، وهو فلاح فلسطيني كثيف الحاجبين بأنف مقوّس ونظرة غاضبة، جاء الرجل قبل سقوط الضفة الغربية المروع، كان يريد استئجار ارض لزراعتها بالقمح. كان يستفسر عن الموسم، ومعدل الأمطار وأمور مشابهه، لكن الجميع كانوا يقولون له:
-اسأل كاترينا.. عندها الجواب الصحيح.
كانت كاترينا محط ثقة البلدة في مجال جودة الموسم، فمثل الرجل أمامها برفقة أبنائه، وبعد أن قدم لها تبرعاً سخياً سيذهب إلي جيب الخوري، قالت له كاترينا، بعدما رمت حجارتها على الأرض.
-السنة غلال غلال غلال.. شايفة السبل أطول من الزلمة، والبيادر حد بعضها مثل الزرازير.
فرح الرجل، واكترى مئات الدونمات وزرعها.
لكن نبوءة كاترينا جاءت معاكسة هذا العام، أحرنت السماء عن الغيث، انتهت أربعينية الشتاء، من دون مطر يذكر. خرجت النساء في تظاهرات الاستسقاء المتداولة
لكن السماء لم تأبه بصرخات النسوة، وجاءت السنة ممحلة تماماً، حتى أُعلِنتْ سنةَ قحط، وهذا يعني قانونياً أن الرعاة يستطيعون أنْ يدخلوا الزروع لترعاها المواشي مجاناً.
خسر الفلاح الفلسطيني جميع أمواله التي دفعها لإكتراء الأراضي، ناهيك عن أثمان البذار وتكاليف الحراثة.
فوقف في وسط الحارة وهو يصرخ، واطلق عبارته المشهورة:
-الله يقطعتشوا ويقطع كاترينتشو.
وخرج الفلاح وأبناؤه من البلدة يجرون أذيال الخيبة والهزيمة.
ما انفكّ الناس يتسابقون في تذكير كاترينا بهذه النبوءة الفاشلة تماماً، فغضبت ولم تعد تقرأ الطالع للنسوة إلا بعد إلحاح شديد، كما أطلقت وعداً بأنها لن تتدخل في أمور الطقس بعد الآن، وادعت أنَّ هذا الجفاف جاء انتقاماً منها؛ لأن الملاك لم يمنحها الحق في التنبؤ حول قضايا المناخ.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى