قصة .. لا تحوّل مجرى النهر / أحمد ختّاوي

لا تحوّل مجرى النهر

****

إنه الأصيل .. الجو فاتر جميل ،نسيمات الشوارع الواسعة المزينة بأشجار السرو تبعث حفيفا تهتز له المشاعر .. الناس بين جيئة وذهاب .. كل المحلات والدكاكين مفتوحة ، ماعدا بعض المؤسسات الإدارية . كان يرتدي قمصا شفافا ..تطيّب ثم سرّح شعره الأملس..وانتظر بعد أن أعياه التجوال بالشارع الرئيس الواسع. أسند ظهره بلطف . إلى إحدى الشجيرات خوفا من أن يلطخ قميصه ببقايا علك أو ما قد يعلق بالشجرة . أعاد مشط شعره بحذر كيلا يُهمل تسريحته المعتادة . نظر إلى ساعته بقلق ..وراح يحاور سرا نفسه المتأججة : تأخرتْ كثيرا ، قد تكون الحافلة مكتظة …أو أعاقها حشد السيارات ، ما بها اليوم
..ربما أبواها قد منعاها من الخروج ، لكنها وعدتني بالمجيء ..أقسمتْ مهما كانت الأحوال والظروف أن تأتي وفي الميعاد
يزداد خفقان قلبه ،يسبق في نبضه ترنّحَ ذلك المساء المنعش بأصناف المارة .
يحاور نفسه من جديد.
ما العائق يا ترى ، وأن ترتيبات الموعد أتممناها معا ، قد تكون أمام المرآة ..هذا بالتأكيد ، أو قد تكون بين هذا الحشد العظيم من المخلوقات ..
يرسل نظرات ثاقبة عشوائية إلى أقصى الشارع ..متمنيا لو كان يرتدي نظارات كاشفة ، أو مجهرا يستطيع تمييز عشرات الناس على بعد مائة متر .
المارة مشغولون بشؤونهم ….حركة دؤوبة يعرفها الشارع ..جمهرة من الأطفال تحلقت ْحول شيخ هرم يترنح من السكر ..أصواتهم البريئة تتعالى ‘ 🙁 عربيد بيّاع بلادو) . إزدحام الأرصفة يمنع فرز الوجوه . يداهمه سيل من الشباب وهو واقف إلى جذع شجرة يستقريء الآتي في ولع ، وكمن به ولع السنين والغربة يقرر في قرارة نفسه ، مخاطبا إياها :
حان الآن التفكير في خطبتها ، لم يعد الوقت في صالحي إذا تأخرتُ ، وقد تضاعف مرتبي إعتبارا من التربص الأخير ..ثم أن صالح المغترب بفرنسا قد يأتي هذا الصيف ويأخذها مني ، لن أدعها له ..وإن كان إبن عمها .
تصرع ناظره موجة من الفتيات مررن بقربه يتهامزن بألقاب رجال كانوا قد عاكسوهن ،،أدرك هذا من خلال قهقهة إحداهن وهي تقول ( يا أخي عباد وجهوهم كالقردة )..حدّق فيها مليا بنظرة ثاقبة يستطلع ملامحها وجمالها ، ثم شرع يتصفح في غير تركيز مجلة إقتناها بصورة عشوائية لم يقع عليها اختياره لتخفيف وطأة الإنتظار ،بعدما تأكد أن ( مليكة ) لا توجد رفقة سرب البنات .
يبعث زفرة عالية يُردفها بنفس من سيجارة ( الريم ) .
يزداد الشارع ازدحاما .. صفير السيارات يصرع كيانه ..
وتمر الدقائق .
يختلط الشارع الواسع بهواجسه .. يتصوره لعبة صغيرة في يد طفل أو ضبابا في يوم بارد ،بالرغم من صفاء الجو في ذاك المساء ..تتشابه الوجوه أمامه، وهو واقف يستقريء اللحظات القادمة .. يهم بالإنصراف ، لكنه يتردد.. يداهمه نفر آخر من الشباب ..: الفريق الوطني الجزائري استعاد قوته وانسجامه ، جملة تفوّه بها أحدهم، كانت آخر ما التقطه بالرغم من محاولة تتبع ملامح المارة والغوص إلى مكامن إنشغالاتهم ،قبل أن يتلقى ضربة من منكب أحد المارة غير متعمدة ..
اسمح لي -آه رشيد ، ما ذا تفعل هنا ؟
ويتعانقان بحرارة ..يدعوه لشرب قهوة بأحد المقاهي المجاورة ..يمتنع وقلبه يتقطع إربا إربا ..وبصوت مرتجف غير واع،يصدر عدة جمل لم يفهم منها صديقه سوى هذه الجملة (بودّي) لكنني أنتظر موعدا هاما ..يلح عليه..يمتنع..ينبض قلبه .
وتنبض الدقائق .
والناس في زهو يحرثون الشارع الواسع بين ذهاب وإياب ..فيما صديقه يكثر من الإلحاح..”يتسمّر” في مكانه كأنه مغروس مع الشجرة .. يلقي إليها نظرة حادة كأنه يوصيها ..يقبل الدعوة على مضض ..ثم يشد يد صديقه مرتجفا ..
ويتواريان عن الشجرة .
كان الشارع قد بدأ يستريح من مارته .
رشيد في صوت ممزوج بالخجل والتطلع، وهو يحاول رشف ما تبقى من القهوة في الفنجان :
في الحقيقة يا ( مصطفى) ثم يصمت..يغلبه الخجل ..
ماذا وراءك .. وما ذا يعتريك ..أرى وجهك شاحبا ؟ ..
لا ..لا…لا… لا شيء..استيقظتُ اليوم باكرا ..ويحاول أن يحدّثَ مصطفى ،لكنه يخفق..كمن يخطب بنتا مباشرة من أبيها .. ثم يواصل .
أتعبني المشي هذا اليوم.. يرمق ساعته خلسة ،فإذا هي الثامنة ليلا .. يدير رأسه صوب باب المقهى ،يترصد أخبار المارة .. يبادره مصطفى الحديث :
قل لي كيف حالك ؟ .
لا بأس ، والله ..سوى .. أنني .
ماذا ؟
تعتريني بعض التقلبات النفسية هذه الأيام لم أعرف كنهها ..ربما نتيجة الإرهاق .
مصطفى وقد فهم الوضع :
إنك تعشق يا رشيد ،من هي هذه الفتاة ؟.
يحاول كتمان السر ، لكن ملامحه تفضحه.
كنتُ أعشق ..والآن انقطعت عن العشق بعدما اكتشفت – كما تعلم – خيانة ( نجاة) ..
لا تحاول الهروب يا رشيد،عيونك تترجم ما تخفيه، قل لي من هذه التي ملكتْ قلبك .. ؟
يمتنع عن البوح .. لكنه يتشجع .. فيرد في ارتباك :
أصبتَ يا مصطفى .. تسكن قلبي فتاة جميلة إسمها ( مليكة) .
ودون تردد يرد مصطفى :
تلك الفتاة التي قدّمتها لي مرة عند مدخل الجامعة .؟
هي بالذات ..ما رأيك فيها ؟ .
جميلة، لكن ما نوع هذه العلاقة؟ .
يلملم رشيد لعابه : .
سأنوي الزواج بها إن شاء الله ، لأن والدتي داهمتها الشيخوخة .. أما أختي الكبرى فستتزوج بعد شهر .. يتنهد ،ثم يضيف : .
مسكينة أمي تعبثْ كثيرا في تربيتي وإعالتي بمنحتها الزهيدة التي تتلقاها لقاء نبل أبي الشهيد..وحتى إخوتي الأربعة لم ينجحوا في دراستهم.
: لا تحمل هما ..الآن أصبحتَ رجلا .. وموظفا محترما .. باستطاعتك تعويض الآم أمك إبان الإستعمار .. لكنني أوصيك بالتروي في اختيار شريكة حياتك..
يطرق رشيد..: ذاك ما يشغلني – على الصعيد المادي.
والفتاة ، هل تعرف شيئا عنها ؟ .
يقطع حديثهما شاب غزير الشعر .. عريض المنكبين .. يتصدر باب المقهى طولا وعرضا .:
صح عليكم يا شباب ..
آه ( السمينة) تعال يقولها رشيد وكأنه يحاول إشراكه الحديث: .
فيما تتحدثان يا شباب ، يقول ( السمينة) في لهجة مفعمة بالتطلع والطرافة والتنكيت؟ هذه الجلسة غير عادية ؟ .
يقولان معا: .
عادية ، ولا تنقصها إلا نوادر ( السمينة) ..
ها هو'( السمينة) أمامكما ،ما ذا تبغيان منه؟
في وجل ينطق رشيد:.
اتهمني مصطفى بالعشق ، وقد أقلعتُ عنه .
له الحق ،يرد ( السمينة) : أنت حطمتَ الرقم القياسي فيه ..وتنفي ذلك عن نفسك ..
تملأ ضحكاتهم جو المقهى ..نكتُ ( السمينة) وتعددها تخترق هواجس وشعور رشيد الذي يبادر ( السمينة) بالقول:
هذه المرة سيكون عشقي أبديا ،،سيدوم ..سينتقل إلى طفل أسميه بإسم أبي ..وطفلة وديعة أسميها بإسم والدتي التي كانت تطحن دقيق الجيران لقاء أجر زهيد .. أو صحن (كسكسي) (مبلل أكل منه أهل الدار) .. سأتزوج هذه المرة يا( السمينة)
أحمد ختّاوي/ الجزائر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى