الصداقة / د. هاشم غرايبه

الصداقة

أغلب الناس يتشكون من قلة الإخلاص بين الأصدقاء، ولو أخذنا مائة شخص كعينة عشوائية من الشارع، وسألناهم عن رأيهم في الصداقة، لوجدت لدى تسعة وتسعين (على الأقل!) الإجابة ذاتها، وهي أنهم يقدسون مبدأ الصداقة وهم محبون لأصدقائهم ومخلصون لهم، لكنهم قلما يجدون من أصدقاءهم التجاوب ومبادلتهم المشاعر والتعامل ذاته.
الصداقة من الصدق، ونتبين معنى الصداقة الحقيقي، من جذرها اللغوي (صدَقَ)، أي قال صدقا، وهي أن يصدُق الشخص الآخر قولا وفعلا، ولا يكذِبُه، فعندها تتحق، ولا يعود أحد يشكو أحداً.
الدوافع لمصادقة الآخرين، هي استجابة لدافع مدنية الإنسان التي يتميز بها عن الكائنات الحية الأخرى، فقد أوجد الله في البشر طبيعة الميل الى التعاون البيني، وعدم القدرة على الإنعزال عن المجتمعات.
قد يقول قائل إن النحل اوالنمل مثلا تعيش في مجتمعات تعاونية، صحيح لكن هذا نظام بيئي ضابط، وليس هنالك أمام أفراد الجماعة خيار الإستقلال بالحياة، فلا تعيش نملة أو نحلة خارج القطيع الذي تنتمي إليه، بينما الإنسان مخير بين العيش ضمن قبيلة أو عائلة، أو يبقى فردا يدبر أمور معيشته بنفسه، لكن حالات الإنعزال نادرة، ولا يلجأ المرء إليها الا تحت ظروف قاهرة.
يبدأ الفرد بالبحث عن أصدقاء منذ لحظة التحاقه بمجتمع ما، فالطفل ومنذ مرحلة الروضة حتى يكمل دراسته الجامعية، وفي كل صف يرتقي إليه يبدأ في البحث عمن يتقاربون معه عمرا وميولا وثقافة، ليختار من بينهم أصدقاء، وعندما يجد هؤلاء يهدأ باله وينسجم مع محيطه، وإن لم يجد يبقى قلقا، ويبدأ بالتفكير في تغيير الواقع الى ما هو أكثر توافقا معه.
إذن فالصداقة حاجة اجتماعية أساسية وليس متطلبا ترفيا، ولا يمكن أن تجد شخصا سويا ليس له أصدقاء.
أعلى درجات الصداقة وأمثلها هي العائلة، بل هي الصورة المثالية للعلاقة الإنسانية القائمة على التعاون وتبادل المعارف والخبرات وتكامل الخدمات.
فشرط نجاح الحياة الزوجية، وبناء عائلة تخرج أجيالا سليمة، هو أن تكون هنالك صداقة حقيقة بين الزوجين قائمة على الإخلاص في العطاء أولا، ثم الإلتقاء على معظم الميول والأهواء، ثم توفر جو الصدق والثقة بالآخر.
أما الأبناء ذكورا وإناثا فعلاقتهم فيما بينهم هي تطبيق لحالة الصداقة الصدوقة بأبهى صورها وأغناها ثمارا، فعلى الرغم من تفاوت الأعمار الذي ينتج تباينا في النضج الفيسيولوجي والعقلي، ويقف حائلا أمام تقارب الأفهام، إلا أن حميمية العلاقة والعيش المشترك تحت سقف واحد، والتماثل التربوي الذي يوحد المخرجات، والمساواة في المعاملة من الوالدين، يُكوّن صورا جديدة من الصداقة ، تتمثل في عطف الكبير على الصغير، ومَنتَجه محبة وحنان، ونظرة الصغير الى الأكبر كقدوة، ومَنتجها الإحترام والإعجاب، هذان المنتجان يتمم كل منهما العلاقة الودية المتبادلة، فيصبح الإخلاص عنوانا.
لذلك عندما يراد توصيف علاقة صداقة مثالية بين اثنين يقال: إنهما كالإخوان.
بغير تلك المواصفات لا تسمى العلاقة صداقة، فقد تسمى معرفة، والتي تكون فيها درجة العلاقة سطحية، اي مجرد أن يعرف كلاهما الآخر إن التقيا، ولديهما معلومات شخصية عامة غير معمقة عن بعضهما، وقد يكون هنالك تواصل بينهما في حالات الأفراح والأتراح.
وقد تسمى صحبة، وهي تتكون نتيجة ظروف خاصة جمعت بينهما، كما في صحبة السفر أو الجيرة أو القرابة، وهذه قد تكون مؤقتة كما في حالتي السفر والجيرة، وقد تتعمق وتصبح أكثر حميمية من المعرفة فتدوم.
وهنالك العلاقة التي تفرضها زمالة العمل أو المهنة أو الدراسة، وهذه تبقى محدودة بحجم المصالح المشتركة، لذا تنحسر عند زوال مسبباتها، أو تتحول الى صداقة إن كان هنالك توافق في الميول والأفكار.
هكذا نتوصل لفهم متطلبات نجاح علاقة الصداقة بين اثنين، فطالما أنها مصلحة مشتركة للطرفين، لذا يجب أن يحرصا معا، وبالقدر ذاته، على أن تكون مبنية على صدق المشاعر، وليست تحقيق المصالح وتوفير المكاسب.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى