في الجدل حول التعليم عن بعد (1)

في الجدل حول التعليم عن بعد (1)
لا تعليم بلا تربية
أ. د أحمد العجلوني

من البديهي إدراك أهمية وسائل التواصل الإلكترونية في مختلف مجالات الحياة إذ أصبحت من متطلباتها الأساسية وليست مجرد تحسينات أو رفاهية. وقد لجأت مؤسسات التعليم بمختلف مستوياته وتخصصاته إلى وسائل التواصل الإلكتروني لما لذلك من مزايا في سهولة نقل المعلومة وحفظها، وللمزايا الاقتصادية من حيث توفير التكاليف في العملية التعليمية من بنية تحتية وهيئة تدريس وطباعة الكتب والقرطاسية وغيرها.
لقد عايشت بدايات الجدل حول ما اصطلح على تسميته بـ “التعليم الإلكتروني” منذ عقدين من الزمن، وسأتناول الموضوع من خلاصة خبرتي المتراكمة في الحياة كطالب منذ المرحلة ما قبل الابتدائية لغاية الدكتوراه وكأستاذ جامعي مارس التدريس على امتداد 26 عاماً، إضافة لخبرتي كولي أمر لأبناء في مختلف مراحل الدراسة. وقد ترسخت قناعتي الكاملة بعدم جدوى عملية تعليم كاملة تتم من خلال التواصل الإلكتروني (مع التحفظ أساساً على اعتبار هذا النوع من التواصل تعليماً بالمعنى الحقيقي للتعليم). ومع ذلك فإن التواصل الإلكتروني يمكن أن يكون صالحاً كوسيلة دعم تقني لتسهيل العملية التعليمية في جوانب معينة كما باقي وسائل الدعم التقني المستخدمة في التعليم، إضافة لفائدته في زمن الأزمات الحادة كما في أزمة الكورونا الحالية.
وإنه على الرغم من الإيجابيات الملحوظة لتوصيل المعلومات إلكترونياً خاصة في ظروف الأزمات التي تحول بين الطلاب ومدارسهم وجامعاتهم، إلا أنه من الضروري جداً حصره ضمن نطاق ضيق ومحدود كحل جزئي موقت وطارئ وعدم التوسع فيه أو اعتباره بديلاً عن التعليم التقليدي بأي شكل كان. إذ إن عملية التعليم والتعلّم لا تقتصر على نقل المعلومة العلمية المجردة من المعلّم إلى الطالب، وهي ليست عملية اتصال من طرف واحد؛ فمن الضروري أن يكون التواصل تفاعلياً بين طرفي العملية التعليمية. وهي قبل ذلك ومعه وبعده عملية تربوية ورسالة إنسانية تتعدى المعرفة العلمية المجردة.
وتبرز أهمية الجانب التربوي في العملية التعليمية من أهمية الخبرة والتفاعل الاجتماعيين والنمو العقلي للطالب والاستفادة من القدوة في السلوك الاجتماعي والعلمي، والتعامل مع المشاكل والمواقف الاجتماعية المختلفة وكيفية حلها. كما أن التفاعل المباشر ينّمي قوة الشخصية لدى الطالب ويبعد احتمالات الانعزال والتقوقع التي تعتبر من أهم المخاطر التربوية التي تواجهها المجتمعات “الرقمية” الآن. وكل هذه الجوانب وغيرها لا يمكن أن تتم بدون اتصال وتفاعل مباشر بين المعلم والأسرة التربوية في المؤسسة التعليمية والطالب.
وبالتربية (التي لا تتم ناضجة إلا باتصال مباشر بين المعلم والطالب) تؤدى رسالة العلم، وتسلم رايتها إلى الأجيال الناشئة، وبالتربية ترتقي مهنة التعليم إلى مصاف المهن السامية، وبها تشرّف المعلمون بوصفهم ورثة الأنبياء. والتربية لا تقتصر فقط على المراحل الأولى في الدراسة كما قد يبدو، فهذه الرسالة متصّلة الأثر وتمتد حتى لطلاب الدراسات العليا.
لقد تظافرت جهود وزارات وشركات عالمية ضخمة لتعوّض مكان المعلم ودوره التربوي فلم تؤد غرضها بشكل مطلوب حتى في الجانب التعليمي؛ فضلاً عن قصورها في الجانب التربوي. ويجب ألا تحكمنا فترات الأزمات لاتخاذ قرارات تعليم استراتيجية تتبنى التعليم عن بعد بشكل مستدام. وإن أي تماد ومبالغة في فرض هذا النمط للتعليم لن ينظر إليه على أنه نابع من جهل بفلسفة التربية والتعليم بقدر ما هو حلقة في مخطط مسبق لتدمير المنظومة التربوية مع سبق الإصرار، لا سيما وأن سياسة الاستئثار الحكومي بكل القرارات وإقصاء الشركاء الأساسيين من معلمين وأكاديميين قد تجاهلت الاقتراح بعقد مؤتمر حول “التعليم الإلكتروني” تقدّم فيه الدراسات المتخصصة وتطرح فيه وجهات النظر الأكاديمية والتربوية المتخصصة للوصول إلى الاستراتيجية الوطنية المناسبة للتعليم عن بعد.
وسوف أستكمل في المقال التالي مناقشة الموضوع بإلقاء الضوء على أهم المنافع وأهم المخاطر الناجمة عن تبني منهج التعليم عن بعد باستخدام وسائل التواصل الإلكتروني.

حفظ الله الأردن من كل شر؛ وأدام ازدهاره

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى