واقع كاريكاتيري / د. هاشم غرايبه

واقع كاريكاتيري

في كل ليلة، ينام الأردنيون على وعود دولتهم بتحقيق مطالب حياتهم المتعسرة، بخطاب إنشائي عنوانه الدائم: (سوف)، وهي ذاتها التي تتكرر في برامج التكليف الوزاري منذ عقود، وفي الصباح يستيقظون على مطالبتها إياهم بأن يكونوا بحجم التحديات.
لم يوضح لهم أحد ما هي هذه التحديات، ومن هي هذه القوة الغاشمة التي لا تنفك تتحداهم طوال الوقت، فيضيعون في هذه الطلاسم وهم يتساءلون: لماذا انصبت ويلات التحدي على هذا الشعب فقط فيما باقي شعوب الأرض تعيش حياتها اليومية بلا تحديات ولا نزالات، وما الذي وجدته هذه التحديات في الأردن فاختارته من غير أمم الأرض لصب لعناتها عليه!؟.
لا تغرب شمس إلا ويسمعون من أصحاب القرار مطالبات للحكومة بإيلاء مشكلات المواطنين الأولوية القصوى، وقبل بزوغ شمس اليوم التالي والحكومة لما تشمر عن ساعديها بعد للبدء بحل الحزمة المتزايدة من تلك المشكلات، تأتي مشكلة إضافية على ما سبق، مثل استعلاء عشيرة على القانون، ورفضها الخضوع له، فتتحول الأولوية القصوى الى مطالبة الحكومة بتطبيق دولة القانون، فتترك القصوى الأولى قبل أن تشرع فيها، من أجل حل القصوى الجديدة، لكنها وقبل أن تبدأ بأي إجراء حازم، تفاجأ بانه قد تم تجاوز ولايتها الدستورية، وتم الإفراج عن الفاعلين وتطييب خواطرهم، فتبرد همتها، وتُرحّل موضوع سيادة القانون الى ذيل الأولويات.
وقبل أن تعود الى الأولوية الأولى، تأتيها مطالبة بإيلاء مشكلة الفقر والبطالة الأولوية القصوى، فتبادر لتشكيل لجنة لبحث السبل لذلك، على غرار عشرات اللجان السابقة ومن الوجوه ذاتها التي صاغت التوصيات الماضية عدة مرات ولم يقرأها أي مسؤول كان طلبها، ليس لعدم ثقته بجديتها، بل لأن التعليمات لديه هي نقيض لها، لأن الأولوية القصوى المكلف بها أصلا، هي توفير أموال للخزينة الخاوية ابداً، والوسيلة الوحيدة المتاحة له، هي إيقاع المزيد من الضرائب والرسوم بالمواطنين، الأمر الذي يعاكس كل التوصيات، ويفشل أية احتمالية لدفع عجلة الإقتصاد المترنحة.
وحتى على صعيد تحسين الخدمات والبنى التحتية التي يطالب بها المواطنون، فقد تضع الحكومة برنامجا لتنفيذ بضعة مشاريع بتمويل من قرض بذلت الكثير واستهلكت كل رصيد شعبيتها من أجل الحصول عليه، لكن ما أن تبدأ حتى تأتيها تعليمات بإيلاء الأولوية لمشروع آخر غير مدرج أصلا، لكن المحسوبية وهاجس كسب ولاء منطقة ما للنظام تؤدي الى التبديل بين الأولويات، فتتغلب الحسابات المناطقية على حسابات المنطق، وتكون النتيجة أن المشروع الحيوي الأول يتعطل، والثاني يفشل لأن المبلغ لا يكفي لإنجازه، وبالتالي تتضاعف الخسارة.
هذا التضارب سببه عدم تمكين الحكومة من ولايتها العامة (بحسب الدستور) على كافة مؤسسات الدولة، وهذه الحالة ليست خاصة بالدولة الأردنية، بل هي سمة عامة لكل الأنظمة العربية والدول الفاشلة في العالم الثالث عموما.
ويعود ذلك إلى هنالك مؤسسة خفية تتحكم في مفاصل الدولة الرئيسة، في بعض الأقطار تسمى ( السيستم) وفي أخرى تسمى الدولة العميقة، وفي بعضها تدعى (المخزن)، وبالتالي فلا يبقى للحكومة من صلاحيات سوى تسيير الأعمال، أي إدارة أمور الجهاز المدني (الخدمات العامة)، لكن يضاف لها المهام الصعبة مثل تدبير واردات الخزينة، وحل مشكلات البطالة، وضبط المخالفات، وبذلك تكون أمام المواطنين مسؤولة عن كل الإجراءات الجبائية المنهكة للمواطنين، فتنصب عليها لعناتهم ويعزز ذلك اتهامها من قبل النظام بالتقصير.
المواطنون يدركون حقيقة إن نزع صلاحية الحكومة برسم السياسة الإقتصادية، يجب أن يعفيها من مسؤولية الفشل الإقتصادي، فليس من العدل تحميلها وزر أخطاء لا تملك لها دفعا، لكن ما يبرر جلدها بسياط اللوم – في نظرهم – أنهم محظور عليهم نقد المقامات العليا، فيصبون جام غضبهم على (البردعة)، كما يزيد من حنقهم على الحكومة أنها قبلت لنفسها هذه المهانة: الأخطاء تلصق بها والإنجازات تنسب لتوجيهات ولي الأمر.
هذه صورة لكيفية إدارة النظام العربي للدولة ، قد تكون كاريكاتيرية، لكن من قال أن الواقع غير ذلك؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى