الحياة مدرسة / د. هاشم غرايبه

الحياة مدرسة

تقول حكاية رمزية أن أحدهم مر ببلدة، ولاحظ في مقبرتها شيئا غريبا، فقد كُتب على شواهد القبور الأسماء لكن إزاء كل إسم كتب أنه عاش شهرا أو بضعة شهور أو بضعة سنين، ولما سأل عن سر قصر أعمارهم، قالوا له إننا لا نسجل عمر المتوفى زمنيا بل الفترة التي عاشها سعيدا.
لو سألت شخصا هل أنت سعيد في حياتك؟ ربما كانت أغلب الإجابات بالنفي، لكن حتى ذلك الذي يعتقد أنه سعيد، سيستدرك قائلا: لكن ليس الى تلك الدرجة!، أو يعقب قائلا: أظن أن الأوقات السعيدة ضئيلة مقارنة بتلك المغمورة بالتعاسة.
في واقع الأمر فإن أسباب السعادة محددة بثلاثة عوامل مجتمعات معا: الصحة والوقت والمال، إن نقص واحد منها لا يُجزِئُه العاملان الآخران مهما عَظُما، فهي مثل القِدْرِ المنصوبة على النار، لا تستقيم إلا بالحجارة الثلاثة تحتها.
الحقيقة أنه فعليا نادرا ما اكتملت هذه العناصر الثلاثة في وقت واحد، أواجتمعت فعليا معا لدى امريء واحد لفترة طويلة، ففي مقتبل عمر الإنسان يكون مكتمل الصحة، والوقت لديه طويل فهو مازال في ريعان شبابه، لكن ما ينقصه هو المال، في منتصف العمر يكون قد جدَّ واجتهد فتوفر لديه المال، كما أن صحته ما زالت في أوجها، إنما ينقصه الوقت، فلا يجد متسعا للإستمتاع بما لديه من صحة ومال، إذ أنه يسابق الزمن لتحقيق طموحاته، أما أواخر العمر فيكون قد جمع المال وتقاعد، مما جعل الوقت متاحا له، لكن الصحة قد لا تسعفه للإستمتاع بذلك.
إذاً كيف سيحصل المرء على حقه في العيش سعيدا والواقع لا يتيح ذلك؟
لا مناص أمامه إلا أن يتزود بالحكمة لجمع الكسور الممكنة من كل الأجزاء المتوفرة من العناصر الثلاثة، أي لا يبقى منتظرا حتى تجتمع كلها معا وفي وقت واحد، بل يأخذ أقصى ما يستطيع مما يكون متوفرا من العنصر المفقود، والذي لن ينعدم تماما مهما ساء الوضع، فيعظم هذه البقايا بما هو متوفر من عناصر أخرى، فيدعم القوي منها الأضعف.
لكن ذلك الترميم يحتاج لاصقا.. تلك المادة اللاصقة الجابرة للكسور هي الصبر والمثابرة.
السؤال هنا: من أين يمكن الحصول على الصبر؟، إنه عنصر ثمين لا يباع ولا يشترى، إنما هو موجود في أعمق أعماق النفس البشرية، أداة التنقيب عنه لاستخراجه تتمثل بالإرادة ، لكنه يستخرج مادة خامأً، تحتاج الى معالجة لاستخلاص المادة الفعالة، ..هذه الإمكانية يوفرها الإيمان.
الإيمان هنا على ثلاثة مستويات، يبدأ الأول من الإقتناع بحق الإنسان بالعيش بكرامته الآدمية، وأنها منحة مستحقة من الخالق لكل البشر على السواء.
والمستوى الثاني الإيمان بالمنحة الثانية من الخالق، وهي أنه قدر لكل مخلوق أرزاقه، إذ قد منحها أيضا للجميع سواء من أطاعه أو من عصاه ، لكنه ترك لك له السعي لكسب ذلك الرزق، فالنملة إن قبعت في باطن الأرض تنتظر الرزق لن يصلها، وستموت جوعا، لكنها إن خرجت وجدّت في البحث ستجده حتما، ولم يحدث أن عادت مرة خاوية الوفاض.
أما الدرجة الثالثة من الإيمان فهي الإيمان بعدالة الخالق الذي لا يظلم مخلوقا مثقال ذرة، بل هو يعطي لكلٍّ نصيبه، ولا يحابي أحدا ولا يشفع أحد عنده إلا بما شاء، وقد وسعت حكمته وعلمه كل ما هو موجود.
متى ما ارتقى المرء فهماً وعلماً الى الدرجة الثالثة، يكون قد عرف معنى الصبر وفهم مفعوله واستوعب استطبابه، إنه ليس تواكلا وقعودا وإنما توكلا وهمة، بل هو نقيض اليأس والخور وقلة الحيلة، به تسد الشقوق والتصدعات في النفس، فتلتئم الجروح وتشفى العلل.
وعندها تعتمر النفس بالرضا والسلام الداخلي، فتحس من داخلها بالسعادة الحقيقية التي قد لا تحققها العوامل الخارجية .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى