من صور البطولة على ساحة الأرض المقدسة – 9 / عبدالله التل بطل معركة القدس

من صور البطولة على ساحة الأرض المقدسة – 9
عبد الله التل بطل معركة القدس
موسى العدوان

” عندما قابلت عبد الله التل، ترك انطباعا في نفسي بأنه كان متفوقا جدا على الضباط والسياسيين العرب الآخرين، الذين واجهتهم في تلك الفترة. فقد كان عبد الله يكره المسئولين الانجليز، وكان يحتقر من يتملق إليهم”.
” موشيه ديان ”

بداية أحب أن أنوه بأنني عندما لا أجد رجالا من الأحياء يستحقون الحديث عنهم، فإنني أعود إلى الذين مضوا إلى رحاب الله، لأذكّر بأفعالهم المشرّفة قبل سبعة عقود تقريبا، وفاء لهم بما قدموه من أجل الوطن، وتخليدا لذكراهم أمام الأجيال اللاحقة. فالكلمات لا تستطيع أن تفيهم حقهم من خلال مقالات قصيرة، بل تدعو الضرورة لفتح مجلدات تظهر بطولاتهم بكافة تفاصيلها. من بين أولئك الرجال القائد عبد الله التل بطل معركة القدس، الذي سأروي في هذه العجالة جزءا يسيرا من إنجازاته الوطنية خلال حرب عام 1948.

فعبد الله التل ( 1918 – 1973) شخصية عسكرية وسياسية فذة لم يتكرر مثلها في تاريخ الأردن الحديث. لقد تحلى بالكفاءة العسكرية، والحنكة السياسية، والذكاء، والوطنية الصادقة، وعُرف بالكره الشديد للمسئولين الإنجليز، فكان يحاول الالتفاف على أوامرهم العسكرية الممالئة لليهود، ويختلق الأسباب للهجوم عليهم في مدينة القدس وما حولها بأي فرصة سانحة.

مقالات ذات صلة

لمع اسم عبد الله التل خلال فترة قصيرة نظرا لانجازاته العسكرية في الصراع مع اليهود، فمَنَحه الملك عبد الله الأول أربع ترقيات من نقيب إلى عميد خلال خمس سنوات من 1944– 1949، وعينه حاكما عسكريا ثم متصرفا للواء القدس وعمره 30 عاما. وشارك التل في العديد من لجان الهدنة والمفاوضات الأردنية اليهودية خلال تلك الحرب.

بتاريخ 18 مايو 1948 وبعد معارك تل الشعار وكفار عصيون، دخلت الكتيبة السادسة بقيادة الرائد عبد الله التل إلى القدس بأمر من الملك عبد الله الأول، استجابة لطلب وفد فلسطيني كان برئاسة الدكتور عزت طنوس. وأسند لها واجب تطهير المدينة القديمة من اليهود وحمايتها من هجماتهم المتكررة. وهو واجب يفوق طاقة الكتيبة التي لا يتجاوز عدد مقاتليها 600 رجل.

عندما اشتدت الاشتباكات مع اليهود قام عبد الله بمحاصرة الحي اليهودي، وأجبر سكانه بما فيهم 85 مقاتلا من عصابات الأرجون والهاجانا على الاستسلام، حيث وقع عبد الله التل وثيقة الاستسلام مندوبا عن الجيش الأردني، ووقعها موشيه روزنك مندوبا عن سكان الحي اليهودي في القدس بتاريخ 28 مايو. بعد ذلك عينه الملك عبد الله قائدا للقوات العربية الموجودة داخل مدينة القدس والتي تشمل إضافة للكتيبة السادسة، فوج من مناضلي جيش الإنقاذ، وفوج من مناضلي الجهاد المقدس، وقوات من الشرطة.
وبناء على اقتراح من الحكومة البريطانية، أصدر مجلس الأمن قرارا بوقف القتال لمدة أربعة أسابيع، وعين الكونت برنادوت وسيطا دوليا بين العرب واليهود. وبتاريخ 29 مايو 1948اجتمعت اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية في عمان ووافقت على قبول الهدنة، على أن يبدأ تنفيذها في صباح يوم 11 يونيو وتنتهي بتاريخ 9 يوليو 1948.

يقول اللواء صادق الشرع في مذكراته: ” أن هذه الهدنة حققت ميزتين هامتين لليهود هما: 1. فك الحصار الذي فرضته الجيوش العربية على القدس، وضمان مرور قوافل التزويد إليها من تل أبيب تحت إشراف الصليب الأحمر. 2. حصول اليهود على الاعتراف الضمني بدولتهم من قبل الدول العربية حتى وإن كان شكليا “. أما عبد الله التل فقد قال: ” إن الموافقة على الهدنة كانت اكبر خطيئة في تاريخ الحروب بالشرق العربي، لأنها سمحت بفك الحصار عن القدس وإنقاذ مئة ألف يهودي كانوا على وشك التسليم أو الموت جوعا وعطشا”.

بتاريخ 21 يونيو قام كلوب بزيارة عبد الله التل في مركز قيادته في الروضة داخل مدينة القدس، وهنأه بالإنجازات التي أحرزتها الكتيبة السادسة. ثم قدم له مكافأة مغرية تقديرا لجهوده، وهي أن يأخذ إجازة استجمام لمدة شهر أو شهرين يقضيها في فرنسا أو بريطانيا على حساب الجيش. ولكن عبد الله اعتذر عن قبول المكافأة معللا ذلك بأن الظروف ( لا تسمح بشم الهواء ) وأن ضميره لا يقبل أن يترك إخوانه الضباط والجنود في ظروف حرجة ويذهب للاستجمام.

في هذه الأثناء كان عبد الله التل يتوقع هجوما كبيرا من قبل اليهود على القدس القديمة. ولذلك أمر جنوده بالاستعداد والصمود بمواقعهم أمام هجوم العدو المتوقع في أية لحظة، وأصدر لهم الأمر اليومي التالي :” على كل مؤمن صادق منكم أن يقرر الثبات أو الموت. سوف ندافع عن المدينة المقدسة حتى آخر رجل وآخر طلقة، ولن يكون هناك أي انسحاب أو تراجع “.

في مساء يوم الجمعة 16يوليو، بدأ العدو بشن هجومه على واجهة الكتيبة السادسة، ممهدا له بقصف مدفعي مكثف، حيث سقطت خلال الساعات الثلاث الأولى للهجوم أكثر من 800 قذيفة مدفعية وهاون على مواقع الكتيبة. ثم بدأ بعدها زحفه في الساعة الواحدة صباحا نحو حائط المبكى والصخرة المشرفة. فاستقبله جنود الكتيبة والمناضلون بمقاومة عنيفة، أدت إلى إفشال الهجوم الذي استمر حتى الفجر دون أن يحقق أهدافه. وهكذا سجلت الكتيبة السادسة صمودا أسطوريا ودافعت عن الأماكن المقدسة وعن شرف الأمة العربية، واستحق عبد الله التل لقب : ” بطل معركة القدس ” بجدارة.

ونظرا لخطورة عبد الله التل على اليهود، أوصى كلوب بتعيينه حاكما عسكريا للقدس اعتبارا من 1 أكتوبر 1948، وإبعاده عن قيادة الكتيبة السادسة والقوات العربية في القدس. وألحق الكتيبة السادسة بقائد اللواء الإنجليزي ” جولدي ” كما ألحق المدافع الثقيلة بقيادة قائد المدفعية الإنجليزي.

وعندما تولي التل منصبه كحاكم عسكري للقدس أذاع البيان التالي: ” يا أهل القدس الكرام، لقد غبت عنكم ولكن من أجلكم، والآن أعود باسم الله والملك والشعب حاكما عسكريا للقدس الشريف. وأني لا أخاطبكم بلغة الحكّام بل كصديق، يعرف جراحكم وسيحاول ما استطاع تضميدها. إنني لا أتنبأ بالمستقبل ولا أقرأ الغيب، ولكنني واثق من أنكم أقوياء مستعدون لبناء فلسطين وسنعاونكم على بنائها، وأنتم طليعة المجاهدين الذين ثبتوا في مواقعهم فأوصيكم بالصبر ثم الصبر. أما أنا فمنكم وإليكم وأمهلوني قليلا لأعيد شكل الجهاز الإداري الذي سيوفر لكم لوازمكم. وإني أعدكم بمحاربة الاستغلال وعَبَدة النقود كما أحارب اليهود، والله الموفق على كل حال”.

ضاق كلوب ذرعا بعبد الله التل، فطلب من وزير الدفاع فوزي الملقي محاكمته بسبب تصريحاته السياسية للصحافة. وبعد أن شعر عبد الله بسوء النوايا المبيتة له من قبل الإنجليز واليهود، قدم استقالته من منصبه بتاريخ 14 سبتمبر 1949، وهاجر إلى مصر لاجئا سياسيا لمدة خمسة عشر عاما. عاد بعدها إلى الأردن إثر عفو ملكي، وعين محافظا في وزارة الداخلية ثم عضوا في مجلس الأعيان، إلى أن انتقل إلى جوار ربه عام 1973. فرحمة الله عليك يا بطل معركة القدس وجزاك عنا خير الجزاء.
التاريخ : 14 / 8 / 2016

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى