«دوائر حيرى» في فضاء الحيرة والشكّ والتساؤل

في مجموعته الشّعرية الجديدة (دوائر حيرى/ 2015) يرسمُ الشّاعر عبدالرحيم جداية دوائره الحيرى صانعاً مِنها لوحةً فنيّةً تتداخلُ فيها الأشكالُ والأفكارُ والحروفُ والكلماتُ في مزيجٍ يأخذُ القارئَ معه في رحلةٍ تأمليّةٍ وطوافٍ صوفيٍّ عبر مسارٍ دائريّ من التّساؤلاتِ والصوّرِ والأحاسيسِ والرؤى الفكرية، للدائرةِ سِحرُها وأسرارها فقدْ تأمّلَها القدماءُ بِحكْمتِهم التقليدية ورسموها رمزاً لأساطيرهم الدينيّة والدنيويّة، فمنذ اقليدس وحتى ريمان والدائرة لا تغيب عن قوانين الوجود الهندسي وعمليات الحساب النوعيّة والنّظريات الفلسفيّة،a أمّا الشاعر عبدالرحيم جداية فقد صنعَ من أبياتِه الشّعريّة صوراً تتداخل في حركة دائريّةٍ كدرويشٍ صوفي يمارسُ طقوسه دون توقف، تتكرّرُ الدوائرُ في مُعظم القَصائد، نراها واضحةً حينا ومخفيّة أحيانا ولكنّها لا تكفُّ عن الحركةِ والدوران، فمن خلالِها يرسمُ الشّاعرُ عالمَهُ الدّاخلي ويجسّدُ مشاعره العاطفيّة ويُشكّلُ رؤيته للعالم الخارجي وينقلُ مايراه من أحداثِ الحاضر والمستقبل، فتارةً يرى فيها عيون حبيبة وأحداقها: «دوائر عبر عينيها سبتني/ بنات العين يفضحن انكشافي». وتارةً أخرى يرى فيها عواطفَه وأحلامَه التي تمتدّ على الأكوان: «أنا والعين من بدر خلقنا/ دوائر في تداخلها ارتباك. دوائر تجمع الأكوان نخبا/ على وتر تعلق في الشباك. دوائر كم يقلبها دوار/ يوسعها على ضجر ارتباك». يدورُ الشّاعر مع دوائره راسِماً منها طَريقاً للعبور حيث يقول في قصيدة «أنا والآخر»: «فاعبر إلى الماء الرقيق دوائرا/ وإلى المحيط فكم عبرت بمالح». هذه الدوائرُ الحيرى تتبادل أدوارها مع الأفكار وتحمل في دورانها حروف الشاعر وشكوكه وأحلامه وأزمنته..   دوائر الحرف للحروفِ سحرها ولها أيضا عِلمها الخاص فلكلّ حرف شكله ومعناه وتأويله، ودوائر الحروف عند جداية تمتدّ على مساحة القصيدة فتكرر وتتوزع في البيت ناطقة بالمعنى وما وراء المعنى، هذه الدوائر تأخذُ من الشّاعر اهتماماً خاصاً فكأنّه ينظرُ لحروفه بِقدسيّة بالغة فيحاورها بأناة ورقة وكأنّها محبوبته التي تحاول إخفاء أسرارها عن عاشقها الولهان فتبدي بعض الودّ أحيانا وتتمنع أحيانا أخرى، في قصيدة (جياد الحروف) يرسم الشاعر دوائره بحذر شديد فتبدو الحروف كأنّها فرسان تركب جيادها وتسير في دائرة الشكل والمعنى حيث يقول: «ألا بوحي فكأسي في يديها/ وكأس الحب أوغل في الرواء. حروف إن دنت مني وصارت/ كلام الله يلهج بالثناء. لأنثر من حروفك ماء ورد/ وأكتب فوق هام الأتقياء». حتى يقول في القصيدة ذاتها: «فتنطرني أطوف على حروف/ لأرحل مع خيول الأنبياء». أما في قصيدة (مذ عرفتك طفلا) نجد الشّاعر طفلاً يتقنُ فنّ الحروف ويجيدُ صفّها حيث يقول في قصيدته المعبأة بالعبارات الرقيقة والمدججة بالايقاع السّلس المتناغم: «أطنني صرت طفلا/ وما بلغتك حولا. وما لثغت بحرف/ ولا كذبتك قولا». حروف الشاعر المتراقصة في دورانها الجميل مرتبطة به وحده يرتبها كيف يشاء ويصنع منها قصائده فهي حروف مصنوعة من أحاسيسه ووجدانه وأحيانا من دمه حيث يقول: «هذا دمي خطّ الحروف أما درى/ أنّ الزّمان تقلّب وفصولُ». ومن صفات حروف الشّاعر أنها عصية تأبى الانقياد وتحتاج لمهارة وقوة في التعبير حيث يقول: «طعم ألمّ شذى السلاف به/ حرف عصي خانه النطقُ». ولحروف الشاعر خمر يؤدي للادمان، وهذه الحروف تمتزج مع الانفاس وترتسم على الورق وتنتثر على شكل وجع، وهي حروف تتناثر وتتداخل في تكوين الشاعر وأجزائه: «آويت للشعر عطرا حين بعثرني/ حرفا تناثر في أرجاء تكويني».  دوائر الشكّ الشكّ نقيض اليقين وأول عتبات العلم وبوابة المعرفة وقد قال الجرجاني أن الشّكّ هو التردّدُ بين النقيضين بلا ترجيحٍ لأحدهما على الآخر، وشاعرنا مسكون بالشّك في داخله أسئلة متزاحمة تظهر في قصائده واضحة أو مخفية حقيقية أو مجازية ولكنها أسئلة تدلّ على نزوع نحو مزيدٍ من المعرفة وتطلّع دائم للوصول للحقيقة، وعند تتبع دوائر الشك عند الشاعر نجد أنها تمرّ بالمراحل المعرفية الآتية: مرحلة وجود فكرة الشك: شاعرنا قلق يحاورُ أفكاره محاورة الطالب المجدّ في طلب المعرفة والحقيقة، ففي قصيدة (الشك) تتكرر كلمة الشك (8) مرات بينما تتكرر كلمة اليقين (3) مرات فقط، ما يدلّ على سيطرة فكرة الشك وسطوتها أمام يقين التسليم والاستسلام فالشك يسود واضحا بينما اليقين يحتاج لبحث واسئلة واستقصاء، في بداية القصيدة يلتقي الشك باليقين: «أنت اليقين وهذا الصمت تذكار/ والشك أنت ولي في شكها ثارُ». ولكنّ هذا اللقاء يمرّ عابراً إذْ أنّ فكرة الشكّ تأخذُ بالتبلور وتزداد وضوحا ويكبر تأثيرها على الشاعر وشعره شيئا فشيئا. مرحلة التساؤل: في هذه المرحلة تتكرر الاسئلة وتغدو علامات الاستفهام خلفية واضحة للافكار والرؤى بحيث يسيطر التساؤل على أغلب القصائد ويتوارى اليقين تدريجيا تاركا للشكّ مساحات واسعة من الحضور حيث تسود الظنون والاحلام والذكريات والاحزان فيترك الشاعر قصيدته مفتوحة على كل الاحتمالات تاركا للقارئ خيار تشكيل الاجابة المناسبة أو تخليد السؤال: «لماذا الصدق يورثنا هلاكا/ ويورثنا الهموم ويستبيح». مرحلة الشك بالذات: يستمر الشك بالسيطرة ويصل لذات الشاعر فيخترقها مشكلا شرخا نفسيا حيث يصور الشاعر ذاته وهي تعاني من صراع الاضداد حيث يقول في قصيدة (وجع الخشاش): «أنا ضد بخاصرة الاماني/ وبالاضداد موت واعتياش. أنا جرح أنا غيم تلظى/ أنا عطش يعاقره العطاش». مرحلة الحيرة: هذا الشك يقود الشاعر للغرق في الحيرة فتداهمه الاحتمالات من كل حدب وصوب وتضطرب لديه الافكار ويغرق في جحيم التساؤلات التي تفضي لمزيد من التساؤلات ويقف مترددا عاجزا عن الاختيار بعيدا عن اليقين .. يقف الشاعر على أبواب حيرته وحيدا فيناجي ذاته في قصيدة (حملت نفسي) واصفاً أوجاع الفراق والبعد واضطراب الافكار وسيطرة الشك الذي يقوده في قصيدة (كم هزني الشوق) للتساؤل: هل من سبيل للنجاة حيث يقول: «تبغي النجاة وعمرنا سِنة/ أين النجاة وخاننا الطوق؟». مرحلة الحنون: يستمر الشك بالسيطرة على المعاني والافكار لدى الشاعر ويبلغ ذروته حينما تبدأ مرحلة الجنون : جنون المعنى وجنون القصيدة وقد يكون هذا الجنون مجازا وقد يكون حقيقة ولكنه في كل الاحوال جنون عاطفي وفكري يختاره الشاعر بارادته ويقبل عليه دون تردد أوخوف، جنون شخصي وجنون جمعي حيث يتسائل الشاعر: «هذا جنوني أم جنون قبيلتي/ يا ويلتي سر الهوى أعماني». في هذه المرحلة الجنونية تبدو الحقائق بعيدة المنال وينتصر الشك وتسود الاسئلة الوجودية .   دوائر الحلم يقول فرويد أن الحلم هو وسيلة تلجأ إليها النفس لإشباع رغباتها ودوافعها المكبوتة، فالحلم صورة أخرى للواقع ومرآة للآمال والتطلعات ويتداخل الحلم والواقع في كثير من المواقف حتى تختفي بينهما الفروقات فيكاد الحلم أن يكون واقعا ويبتعد الواقع عن المعتاد حتى يقترب من كونه حلما.. دوائر الحلم عند جداية لا تنفصل عن الواقع ولكنها تتجاوزه وتحلق في عالم الخيال، في قصيدة (قبضة حلم) نرى الأحلام تتحرّك في دوائرها المتداخلة، فيختفي الواقع بين دوران الاحلام ويقترب من كونه وهماً لا يمتّ للحقيقة بصلة، فنرى الحلم يتبعه آخر حيث يقول الشاعر: «حلم يناجي الحلم في خدر/ التي كشفت عن الأنّات والتشويق». للأحلام وظائفها عند الشاعر ومنها استعادة الماضي الجميل فنراه يحدثنا عن الماضي بأسلوب عاطفي رقيق يعيدنا لأجواء المدرسة الرومانسية فحين يزوره جده ذات حلم يصف لنا ضحكاته وسعادته المفرطه في حنين موجع لماضٍ غدا مجرد حلم يراود خيال الشاعر يقول: «ذات حلم زارني جدي ولبى/ زار قلبي ماسحا بالكف قلبا». ومن وظائف الحلم أيضاً تقديم رؤية خاصة بالشاعر فيما يتعلق بالماضي والحاضر والمستقبل فالحلم عند جداية ليس جزءا مقتطعا من الواقع بل هو رؤية ذات جوانب متكاملة تسعى لأنْ تستقلّ عن الواقع وأن تقدم صورة مغايرة لواقع زاخر بالآلام والصعوبات ففي قصيدة (هل يكتفي الشوق) يقدم الشاعر رؤيته للحلم العربي (حلم الوحدة والتحرير والعودة) فنراه يحشد في قصيدته مدنا ورموزا عربية معروفة مشكلا ملامح حلم وردي جميل، فنرى من خلال ابياته الشعرية (دجلة- العراق، الأرز- لبنان، جلق – سوريا، بلقيس – اليمن، الأقصى – فلسطين، بيروت، بغداد ) ونشاهد الرموز العربية التالية (درويش، شوقي، اليرموك، الاقصى، النيل، باب الواد، اللطرون، ابن الوليد).  دوائر الزّمن الزّمن عنصر رئيس في تسيير الأحداث من خلاله تغدو الوقائع قابلة للتدوين، ومن صور الزّمن عند الشّاعر حديثه المتكرر عن الماضي ورسمه الدقيق للحاضر ونبوءاته العديدة عن المستقبل وحنينه الجارف للشباب، وتصويره الدقيق لحالات الليل والنهار حيث نشاهد من خلال قصائده أن الزمن بحركته الدائمة نحو الامام يُشكّلُ محركا للتحوّل المرحلي عند الشاعر، فهو يصور طفولته ونضوجه وشيخوخته بصورة متداخلة متجاوزا الزّمن الفيزيائي مُشكّلا زمناً داخلياً للقصيدة ينبعُ من رؤيته الشّاملة للحياة وكأنه رسام يراقب الأحداث من مكان خارجي ويصفُ تحولاتها الكبيرة.. ففي قصيدة (الزمان) نجد الكلمات الزمنية الآتية (الطفولة، شيخ، الأيام، طفل، فصول، عمري، السنون، مواسم ..)، وهي كلمات دلّت على تطور زمني غير خاضع لترتيب فيزيائي معروف مما يدلّ على أن للشّاعر رؤيته الزمنية الخاصة النابعة من تجربته الوجدانية وتداعياته الفكرية غير التقليدية حيث يقول: «اشتاقك الآن حيث الآن لي زمن/ وكم همست بأذن الأمس فانبثقا». فالشاعر يبدو قادرا ضمن رؤيته الزمنية على استحضار الأمس رغم وجود ضده الفيزيائي (الآن) وهو يؤنسن الزّمن ويختاره صديقا قادرا على مصاحبته ومشاركته عواطفه وأحلامه.. والزمن عند الشاعر يكتسب صفات وصور مميزة وغريبة فهو زمن مطواع وسريع قد يمرّ أمام العين بلحظة واحدة وقد يعود بلحظة أخرى: «مرّ الزّمان أمام العين ما بسمت/ عاد الزمان إلى الأعتاب مبتسما». وبسبب سرعة الزمن يحسب الشاعر العمر بساعة تمر وتأخذ معها السنوات وتطويها، وكأنّ هذه الساعة المعيارية الخاصة بالشاعر قادرة أن تطوي من حياته عمرا كاملا: «كأني قضيت العمر والعمر ساعة/ تراك أطلت النوم بين الخرائب». فالصور الزمنية عند الشاعر متخمة بالايحاءات القابلة للتأويل والمرتبطة بالحالة العاطفية والنفسية للعاشق الذي يخاطب طفولته ويستشرف مستقبله بلغة مفعمة بالحنين والتفاؤل فكل صورة زمنية جاءت مرتبطة بحدث يتأرجح بين الواقع والخيال تاركاً للقاريء مُهمّة التطواف في الاستعارات الزّمانية والمكانية في إطار مليء بالأحاسيس المتقدة والشّعور المتدفق عبر الكلمات الرقيقة المعبرة المتكأة على الموروث الديني والتراث والانساني.. والزّمن عند عبدالرحيم جداية غير مرتبط بالمكان فهو يتحرك في فضاء شعري مستقل بحرية كبيرة مما يجعل منه عنصرا صانعا للصّورة الشّعرية وليس تابعاً لها. لقد استطاع جداية من خلال تطويع الزّمن الشّعري ودمجه في الزمن الواقعي أن يرسم أفكاره بحرية كبيرة مادام قادرا على الانتقال السلس مابين الماضي والحاضر والولوج السريع في المستقبل القريب ورسم الزمن من خلال دوائر تتحرك حيرى دون بداية او نهاية. وختاما نجد أن الشّاعر عبدالرحيم جداية صاحب الكلمات الجميلة قد دخل من خلال هذه المجموعة الشعرية الجديدة (دوائر حيرى) مرحلة أخرى من مسيرته الشعرية، مرحلة تتّسمُ بكثير من الحيرة والشكّ والتساؤل مرحلة تأخذ مسارا دائريا بحيث لا يمكننا أن نعرف من أين بدأت ولا يمكننا أن نتنبأ إلى أين ستنتهي هذه المرحلة بالشّاعر الفنان عبدالرحيم جداية. * أديب من الأردن

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى