تاريخ الشركس في فلسطين / حنان عمارنة

تاريخ الشركس في فلسطين
تمهيد:
من هم الشركس؟

الشركس هم من شعوب القفقاس القدماء الذين سكنوا في شمال غرب القفقاس منذ عصور قديمة جدا، وبالأخص في دولتهم التي سميت (اديغايا) التي على ضفاف نهر الكوبان الواسع والسريع، على شاطئ البحر الأسود في جنوب روسيا

الشركس هم شعب ذو طابع اثني وثقافي خاص، يتحدثون لغتهم الشركسية، وأطلق عليهم اسم (الشركس) من قبل الشعوب المجاورة: الروس، الترك والتتار. ويطلق اسم الشركس على كل الشعوب التي سكنت شمال القفقاس، وهم: الشيشان، الأينغوشبون، البلقازيين، الاوسيتيين، الأبازة، الأبخازة والأديغيين (الذين أتحدث عنهم في هذه المقالة، وسأسميهم باسمهم المعروف اكثر الشركس، يقال ان الشركس ينتمون الى الحيطيين القدماء، الذين أسسوا دولة كبرى في آسيا الصغرى في الألفية الثانية قبل الميلاد، وقد توسعوا واحتلوا اراض كثيرة حتى وصلوا الى الحدود المصرية. وكانوا من اكثv الشعوب قوة ورباطة جأش

ديانة الشركس:

الديانة السائدة بين قبائل الشركس هي الإسلامية، ومن كل القبائل القاطنة على منحدرات جبال القفقاس الشمالي يُعد القبرطاي أول من اعتنقوا الديانة الإسلامية (من الشراكسة) ، وذلك بسبب التأثير الروحي للأتراك الذين فتحوا قلعة أنابه “على الساحل الشرقي للبحر الأسود.”

إن عدد المسلمين كان يزداد بالتدريج، عندما دخل الإسلام شمال القفقاس من شاطئ غلينجيكا وحتى بحر قزوين، كان من أوائل من دخل الإسلام النبلاء وعدد قليل من عامة الشعب، والبقية فضلوا البقاء بدون مُعتقد ديني محدد، وتابعوا الشعائر الدينية القديمة التي تنص على تقديم الذبائح كقرابين ، ولم يكن عندهم أي بناء خاص للصلاة، وكانت المساجد تُعين ضمن أحراج محرمة تحت السماء بدون بناء

الشركس في فلسطين:

بدراسة تاريخ تواجد الشراكسة في فلسطين، وجدنا أانهم تواجدوا فيها على ثلاث مراحل زمنية وعلى النحو التالي:

المرحلة الأولى: وتعود الى مرحلة الدولة الأيوبية وحكم السلاطين الشراكسة في مصر وبلاد الشام ابتداء من عام 1171 ميلاديه الى العام 1517 ميلادية

المرحلة الثانية: التواجد الثاني للشراكسة في فلسطين يعود الى بداية حكم العثمانيين في عهد السلطان سليم الثاني ابتداء من عام 1517 ميلاديه الى العام 1878 ميلاديه

المرحلة الثالثة: وتعود الى مرحلة تهجير الشراكسة للمرة الثانية من دول البلقان الى الولايات العثمانية ابتداء من العام 1878 ميلاديه

المرحلة الأولى: تشير الوثائق التاريخية الى ان اول تواجد للشراكسة في فلسطين كان في عهد الدولة الأيوبية التي نشأت عام 1171 ميلادية، و بالرجوع الى الوثائق التاريخية، حيث يقول المقريزي بأن السلطان بيبرس هو ن اوائل سلاطين المملكة البحرية الشركسية الذين استولوا على مدينة يافا في مايو عام 1268 ميلاديه في عهد السلطان الاشرف صلاح الدين خليل بن قلاوون، وهاجم مدينه عكا و حاصر اسوارها و احتلها عام 1291 ميلادية.

كما قام أكثر من سلطان من سلاطين المملكة البحرية الشركسية في حماية المقدسات الاسلامية بالقدس الشريف، وبناء أكثر من 17 مدرسه فيها اضافة الى الاصلاحات التي ادخلها على قبة الصخرة المشرفة و المسجد الاقصى المبارك بعض سلاطين شراكسة الدولة البحرية الأولى في مصر و بلاد الشام.

وفي عهد سلاطين وملوك الدولة البرجية الشركسية التي امتدت من عام 1382 ميلاديه الى العام 1517 ميلادية، تواجدت اعداد كبيره من أمراء الشراكسة واعيانهم وعلمائهم في فلسطين ومنهم: الأمير قانصوه الغوري الذي تولى نيابة مدينتي صفد والقدس، والشيخ ضاهر الذي كان واليا على مدينة عكا في عهد السلطان علي بك الكبير الشركسي في عام 1738 ميلادية.

وربما كان من اكثر الشواهد على دور الشراكسة في فلسطين في عهد ملوك و سلاطين شراكسة مصر وبلاد الشام هو العدد الكبير من المساجد و المدارس والاروقة والنصب التذكارية التي بناها سلاطين وامراء شراكسة في المدن الرئيسية في فلسطين عامة والقدس خاصة

حيث قدر بعض المؤرخين و الباحثين و المختصين في المنشآت و المرافق الدينية في فلسطين عامه و في بيت المقدس و المسجد الاقصى المبارك والصخرة المشرفة خاصه بأن 45% تقريبا من تلك المنشآت شيدها أو أضاف عليها أو قام بترميمها وصيانتها هم ملوك وسلاطين الشراكسة الذين حكموا مصر والمشرق العربي الذي كان يسمى بلاد الشام حكما مباشرا حوالي 257 عاما متواصلا.

أما المرحلة الثالثة وهي إبان عهد الإمبراطورية العثمانية، إذ وفدت طلائع الشركس إلى فلسطين من منطقة “مارويل” الواقعة على الحدود اليونانية البلغارية، حيث سكنوا هناك منذ عام 1865م بغرض استفادة الحكومة العثمانية من قدراتهم الحربية في المعارك التي كانوا يخوضونها في أوروبا الشرقية والبلقان، لكن الهزائم المتوالية التي لحقت بالعثمانيين أمام الروس وحلفائهم الأوربيين أجبرت الحكومة العثمانية على ترحيل الشركس، ونقلهم من أوروبا الشرقية إلى شبه جزيرة الأناضول وبلدان المشرق العربي ومنها فلسطين، في فلسطين تمركز الشركس في قريتين، الأولى “كفر كنا” الواقعة على بعد 12 كم إلى الشرق من بحيرة طبريا، وسكانها من قبيلة “شابسوغ”، والثانية هي بلدة “الريحانية” بالقرب من الحدود وسكانها من قبلية “إبزاخ”، والشركس في فلسطين ينتمون إلى أربع قبائل، تتفرع منها 46 عائلة، وأكبر القبائل هي قبيلة شابسوغ التي تمثل غالبية سكان قرية كفر كنا وجزء من قرية الريحانية. عاش الشركس جميع الأحداث التي جرت في فلسطين منذ استقرارهم فيها، ونظرا لقلة عددهم فقد كان تأثيرهم في أحداث البلاد محدودا، وفي عام 1948م، وعلى أثر نكبة فلسطين لجأ عدد من شركس فلسطين إلى سوريا، كانت الروابط الدينية والإسلامية تشدهم إلى أهل البلاد إضافة إلى تشابه نمط المعيشة الزراعية ـ الرعوية الذي كان يمارسه الشركس والعرب، إلا أن الشركس لم يتماهوا تماما مع المجتمع الفلسطيني المحلي وظلّوا متمسكين بعاداتهم وتقاليدهم الخاصة

عاش الشركس جميع الاحداث التي جرت في فلسطين منذ استقرارهم فيها. وبالنظر لقلة عددهم كان شأنهم في احداث البلاد صغيرا جدا، لم يتجاوز نطاق العلاقات القائمة بين قراهم والقرى العربية المجاورة. فصلات الود او النزاعات بينهم وبين الفلسطينيين العرب لم تختلف عما كان قائما بين أي قرية فلسطينية واخرى. وكانت الروابط الدينية والاسلامية تشدهم الى اهل البلاد اضافة الى تشابه نمط المعيشة الزراعية ـ الرعوية الذي كان يمارسه الشركس والعرب
عانى الشركس ما عاناه الفلسطينيون جراء قيام إسرائيل سنة 1948. وغادر فلسطين آنذاك نحو 20 عائلة شركسية استقرت في قرية مرد السلطان شرق مدينة دمشق كلاجئين فلسطينيين. أما القسم الأكبر من الشركس فقد بقي في فلسطين المحتلة، وخضع مثل بقية العرب لظروف الاحتلال، وقاسوا عمليات الطرد ومصادرة الأراضي. ففي تشرين الأول 1953 طردت سلطات الاحتلال الصهيونية سبع عائلات شركسية من قرية الريحانية. وفي سنة 1957 غادر عدد من الأسر إلى تركيا هرباً من عسف الاحتلال. وتقلصت مساحة قرية كفركما الشركسية من نحو 8500 دونم إلى نحو 6500 دونم، وأراضي قرية الريحانية من 6000 دونم إلى 1600 دونم بالمصادرة

في سنة 1959 ظهرت محاولة قام بها بعض مثقفي الشركس في فلسطين لنشر القراءة والكتابة باللغة الشركسية الأم. وهذه المحاولة جاءت بتأثير من الثقافة الشركسية فيما كان يعرف بـ«الاتحاد السوفياتي». فبعد سقوط ستالين جرى إعادة الاعتبار للشركس في الاتحاد السوفياتي وسمح بهم بإحياء لغتهم القومية التي صارت تكتب بالأبجدية الروسية. وقد تأثر عدد من المتعلمين في الأوساط الشركسية فأرادوا تطبيق هذا الأمر في فلسطين. واتخذت سلطات الاحتلال من ذلك ذريعة، فبادرت إلى استقدام أستاذ أميركي متخصص باللغويات والقفقاسيات من جامعة «ميتشيغن» لتعليم الشركس الكتابة والقراءة بلغتهم، ثم أدخلت إلى نظام التعليم تدريس الشركسية بدلاً من العربية، فصار الشركس يتلقون تعليمهم بالعبرية والشركسية. وشجعت سلطات الاحتلال بعض المثقفين على كتابة أدبهم وقصصهم الشعبي باللغة الشركسية الجديدة. وقد قاوم معظم الشركس إلغاء اللغة العربية من المناهج التعليمية لأن في ذلك إساءة لجميع الشركس في البلاد. وعند الحديث عن إذا خدم الشركس في جيش الاحتلال الصهيوني أم لا هناك توضيح هام ففي خمسينيات القرن العشرين بعد نشوء ما يسمى بدولة إسرائيل بقوة السلاح وقع مخاتير الشركس عريضة تبيح لأبناء الشركس الخدمة في جيش الاحتلال فأصبح التجنيد بين صفوف الشركس إجباريا، دون الفتيات منذ ذلك الحين ـ وبالتالي فكل شاب بلغ من العمر18 عاما عليه أن يخدم في جيش الاحتلال لمدة ثلاث سنوات .

الكثير من الشراكسة رفضوا هذا الأمر ولكن قوات الاحتلال تعاملت معهم بقسوة فكانت الشرطة العسكرية تلاحق رافضي الخدمة في الجيش سواء لأسباب دينية أو ضميرية أو غيرها ومن ثم تودعهم في السجون لفترات متفاوتة.

ومع اصرارهم عدم الخدمة في جيش الاحتلال وبخاصة المتدينين منهم خضع جيش الاحتلال لإرادتهم واصدر قرار بإعفاء شاب واحد من كل قرية شركسية سنويا من الخدمة الاجبارية وشكلت لهذا الغرض لجنة باسم “اللجنة الدينية” بعدها ارتفع العدد إلى اثنين وفي السنوات الأخيرة إلى أربعة وكل من يرغب فوق هذا العدد في عدم الخدمة يمكنه تقديم طلب خاص بإعفائه منها وغالبا ما تتم الموافقة على هذه الطلبات

ولا بد من الإشارة إلى يهود القفقاس أو اليهود الجبليين الذين يطلق عليهم اسم “التات”. ويعيش معظم هؤلاء اليهود في داغستان وجورجيا وأذربيجان، ويقوم أكبر تجمع لهم في مدينة “دربند” أي «باب الواد» على بحر الخزر. وقد هاجرت أفواج منهم إلى فلسطين في مطلع القرن العشرين واستوطن أفرادها مستعمرة بير يعقوب، وأقام بعضهم في القدس. ويعيش القسم الأكبر منهم في الحي القفقاسي في تل أبيب. وهؤلاء اليهود الذين عاشوا في القفقاس اقتبسوا من الشركس زيهم القومي ورقصهم وموسيقاهم والكثير من عاداتهم وتقاليدهم، وتكلموا اللغة الشركسية إلى جانب الروسية. واستغلت قوات الاحتلال مهاجري “التات” هؤلاء فراحت توجههم إلى تمتين علاقاتهم مع شراكسة كفركما والريحانية باعتبارهم ينتمون إلى قومية واحدة. وراح أفراد من “التات” يترددون على قرى الشركس وهم يرتدون الزي الشركسي، ويتكلمون اللغة الشركسية، ويشاركون في العروض العسكرية الإسرائيلية بالزي التقليدي، ما أوهم الكثيرين أن الشركس هم الذين يشتركون في المناسبات الإسرائيلية المختلفة، وفي ذلك محاولة للإساءة إلى الشركس في الدول العربية الأخرى .

ويتمركز الشركس في قريتين من قرى أراضي عام 1948 كما أسلفت وهما الريحانية وكفر كنَا

أولا: الريحانية

تقع قرية الريحانية على مسافة 8 كيلومترات من مدينة صفد سنة 1873، ولكن العائلات الشركسية لم تصلها إلا عام 1878. ولجأ الشركس إلى الشرق الأوسط بعد طردهم من وطنهم الكائن شمال القوقاز.

بنيت القرية بأسلوب شركسي تقليدي ضاربة جذوره في القوقاز، ويتميز ببناء البيوت وهي متلاصقة لتكوّن سورا واقيا حول القرية، وبقي جزء من هذا السور قائما حتى يومنا هذا. وفي القرية كذلك مسجد بني على غرار المساجد الشركسية في القوقاز، ويختلف جوهريا عن المساجد العربية. ومن مصادر رزق سكان القرية السياحة والزراعة. كما يتميز الشركس بلباسهم التقليدي الذي يتضمن قبعة فرو وثوبا أسود مزينا بالأعيرة النارية على الصدر، وسيفا يتدلى من حزامهم، وجزمة ملمعة .

ثانيا: كفر كنَا

تقع إلى الشمال من مدينة الناصرة على بُعد 8 أمتار، وإلى الغرب من بحيرة طبريا، كما ويقع جبل الشيخ في جنوبها، وقد قامت البلدة على آثار القرية الكنعانية “عين قاصين”، ويحيط بها عدد من المدن، والقرى منها المشهد، ودبورية، وعين ماهل.

تبلغ مساحة البلدة حوالي 10.6كم²، ويبلغ ارتفاعها حوالي 252م عن سطح البحر، كما أنّ عدد السكان قد وصل إلى 22,516 نسمة، وفقاً لإحصائيّة عام 2015 ، يعتمد اقتصاد البلدة على الزراعة بالدرجة الأولى حيث تشتهر البلدة بوجود عدد من بساتين الرمان، والزيتون بنوعيه المليصي، والصوري، ويعتبر زيت الزيتون فيها من أفضل الأنواع في منطقة الجليل، ولكن الزحف السكاني لأهالي البلدة تسبب في القضاء على كثير من الكروم، كما يعتمد اقتصاد البلدة أيضاً على الصناعية، حيث يوجد فيها منطقة صناعية، ويوجد في هذه المنطقة مصنع لإنتاج السخانات الشمسيّة، والكهربائية، وهو من أهمّ المصانع في منطقة الجليل، وتعتبر البلدة مركزاً تجاريّاً مهمّاً في مدينة الناصرة .

الخاتمة:

الشركس هم مسلمون، مرتبطون بعقيدتهم الإسلامية، كما ان علاقتهم مع أبناء جنسهم متينة، فهم محافظون ولباسهم محتشم، ولا تباع الخمور في محالهم ولا تشرب في بيوتهم، ويرسلون زكاة أموالهم الى إخوتهم الشركس في القوقاز وتركيا والشيشان، ويقومون بحملات الإغاثة لإخوتهم المسلمين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتستخدم الأبجدية القومية الشركسية المستعملة في القفقاس في دروس تعليم اللغة الشركسية، أما عن ما لخدمتهم بالجيش الصهيوني فأمرهم بأيدي شيوخهم ومخاتيرهم الذين خانوا وطنهم والبلد الذي أواهم وتحملوا وزر آلاف الشباب من الطائفة الشركسية الذين يعانون من أزمة هوية بين الانتماء لدينهم وبين خدمتهم بجيش الاحتلال .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى