طائر العقعق اليَعربيّ

طائر العقعق اليَعربيّ
د. جودت سرسك

إنّ المتتبّع لسلوك بعض الأطفال والحوامل، قد يلحظ نمطاً تغذوياً غريباً يندرج تحت مسمّى متلازمة بيكا Pica syndrome.
تمتاز هذه المتلازمة بميولات غذائية غريبة، إذ قد يميلُ الطفلُ والحامل إلى تناول قطع الثلج البارد، والصابون، ومواد كيماوية حادة الطعم، والطباشير، والطين والشعر، والبراز.
وإنّ المتذوق للشّعر والمعاجم العربية، حين يبحث عن خفايا البراز العربي يجِدُ العجَب، فإنْ برّز الفرسُ على الخيل، فقد سبقها. والبرازُ، بالفتح: المكان الفضاء من الأرض البعيد الواسع، وإذا خرج الإنسانُ إلى ذلك الموضع قيل: قد برز يبرُز بُروزاً أي خرج إلى البَراز.
وقد كانت العربُ إذا أرادتِ البَراز أبعدتْ، فالبَراز بالفتح: اسمٌ للفضاء الواسع، فكَنَوا به عن قضاء الغائط كما كَنَوا عنه بالخلاء، لأنهم كانوا يتبرزون في الأمكنة الخالية من الناس.

أمّا البِرازُ بالكسر فهو ما يطرده العربيُّ من أمعائه وعقله عند التبرّز والعيش. وتشيع اشتقاقات اللفظ في الحديث والشِّعر العربي ولغة الفصاحة: فالرجل برْزٌ والمرأة برْزة، إذ يوصفون بالجهارة والعقل. وأبرز الرجلُ إذا عزم على السفر وإذا اتخذ الإبريزَ أو الذهب الأسود.
إبرازٌ وبروزٌ وبارزٌ ومبارزٌ بالسيف وبَروزٌ ومُبْرَز. ولا حصر للباء والراء والزاي في معجمنا العربي الفوّاح.
ما للملوكِ وللبراز، وإنّما حتفُ المبارز خطفةٌ للبازي(معاوية بن سفيان)
إذا برزَتْ ليلى من الخدرِ أبرَزَتْ لنا مبسماً عذباً وجِيْداً مُطوّقا(يزيد).
يدوّن علماءُ النفسِ والأطباءُ، حالةً من اللاسبَبة الواضحة، غير أنّ هذا السلوك قد يرتبط بالوسواس القهري، أو الاضطرابات النمائية العقلية واضطراب طيف التوحد الغامض.
عدا عَن أسبابٍ أخرى مرتبطة بنقص الحديد في الدم، وفيتامين دال وفيتامين سي وعناصر غذائية أخرى.
ترتبط هذه المتلازمة، بطائر غراب العقعق، حيث يعرف عنه شهوته لتناول الخشاش والقاذورات. وهذا الطائر رمز السعادة والحظ عند الصينيين، خلافاً للثقافة الروسية التي تعدّه رمزاً للقوى الشريرة، حيث تختبيء خلف أسراب العقعق ساحرات طائرات من فوق عصيِّ المكانس.
ويصعب على طائر العقعق الرضا بالقليل، ذلك لتنوّع طعامِه، فهي تأكل كلّ ما تواقعه مخالبُها، حتى العظم المسروق من الكلاب والبيض والكتاكيت والقوارض الصغيرة والحشرات. وفي مواسم البرد تصحَب طيورُ العقعق الحيواناتِ المفترسةَ بحثاً عن الجُثث وطعم القمامة.
الشغَف بالسرقة التافهة والارتباط بالجشع، حيث يسحب العقعقُ إلى مخبئِه كلَّ شيءٍ دون تمييز.
وممّا شاع مؤخراً لمتذوقي القهوة، ارتفاع أثمان حبات قهوةٍ يُعاد تصنيعها في أمعاء حيوانٍ يشبه الراكون، إذ يقدّمونها له غذاءً فتخرج مكسوّة بطعم البراز فيطيبُ طعمها.
وما أشبه مُواطنَ الأمّة العربيةِ مِن أمعائها إلى أمعائها، بالمصاب بمتلازمة العقعَق أو بيكا، الذي يأكل كلّ ما يتوفر له بحثاً عن شيءٍ مفقود لا يعرف أين هو. يبحث عن أمّة واحدةٍ، ووطنٍ محرّر، وأطفالٍ لا تزعجهم براميل الخوف وفسفور الليل.
يبحث عن طَعْمِ سمكٍ غير المقطوع رأسُه في البرّادات المجهولة، يبحثُ عن بحرٍ لا يغرق فيه أطفاله وتضيع ملابس فرحتهم. يبحث عن جواز سفرٍ، لا يعرف التمييز بين لون وعرقٍ ودين، يبحث عن طابورِ كرامة دون عصيٍّ ولا هروات. يبحث عن سجنٍ خالٍ من رئيس شرعي مقتول، يبحثُ عن حاكمٍ لا يبول على كرسيّه إذا هرِم، يبحث عن بيتٍ فيه رائحة اللحمِ البلدي، مُزجت بنكهة الفاصولياء البلدية. يبحث عن مكانٍ يضمّده إذا مرِض، ولا تفوحُ منه روائحُ الموتِ في النزْعِ الأخير، يبحثُ عن كرامة.
فأن تكون عربياً، يعني أن تكون مصاباً بالوسواس القهريّ الشائع، واضطراب التوحّد، وخلَل النماء العقليّ، يعني أنْ تكون حاملاً في السنة التاسعة لهمومٍ كفيلةٌ بولادة من الخاصرة، تشقّ بطنَك وتحرمُك مِن لذّة النظَر إلى الجنين القادم.

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى